دينق قوج … الغياب والحضور الأبدي
كولانق مدينق مير
في أمسية من أمسيات السبت أو الأحد حسبما أعتقد؛ التقيت به بحي طونقبينج جوار (أمريكان ريسيدينت) بجوبا و كان مبتسماً وبشوشاً كأنه يطبق الحديث الشريف ” تبسّمك في وجه أخيك صدقة” يرحّب على الحضور بالأحضان ، ويشعرهم بالطمأنينة والأمان ويقول لهم البيت بيتك. وأذكر أنه في تلك الأمسية كان قد ناولني كأساً من الويسكي مغموراً بالثلج وانصرف دون أن ينطق بكلمة، ولغير العارفين بالويسكي وخصوصاً مشروب ” جاك دانيال ” فهو مشروبٌ قوي جداً ورشفة صغيرة منه ستخرجك من وضعك وتدفع فيك شحنة كبيره من الدوبامين التي تنتشر في الجسد وستصل لمستوى من الرغبة والسعادة والفرح والسرور حيث هنالك المتعة والاسترخاء والرضى كمكافأة. و كانت تلك الأمسية هي الأجمل والأروع على الإطلاق.
الراحل المقيم دينق قوج رجل السّلم والسّلام وكل المواقف الجميلة والإنسانية، لهو حضور أنيق و لافت و تواجد لامع ومشاركاته الواسعة وإسهاماته الجبارة؛ يتمتع بذكاء مبهر و خيال خصب و كلماته واضحة كوضوح الشمس و مفرداته كالنيل تتدفق حكمٍ وعِبر ومعرفة عمقية بأدق التفاصيل والروابط. شخصية متميزة يعرف كيف يبدأ و يدير أي حِوَار ويخاطب الجميع بطرق مختلفة ويفهم من لا يفهمه . والمفاجأة أنه يستبدل ويستخدم النكات أحياناً لتوصيل رسالته وفكرته، و هنا الكل عرف وأدرك بأن دينق قوج ” زول ما ساهل أبداً ” يدرس خطواته بعناية.
رحل عنّا دون وداع، رحيلٌ كرحيل العظماء ، فقد قاتل في جميع الجبهات كمقاتل شريف و سلاحه القلم و قضيته الحق والعدالة، ناشط اجتماعي و مدافع شرس عن الحقيقة وحقوق الأقليات و البسطاء على وسائل التواصل الاجتماعي وخارجه. وشغل الراحل مساحة ضخمة في إطار العمل العام والخاص و له جهد كبير وإسهامات في المساعدات الإنسانية ،عرف الدستور جيداً و القوانين المدنية والعرفية عن ظهر قلب” كالعادات والتقاليد”.
دينق قوج رجل مختلف و له أفكار واسلوب مميز. له شخصية قادرة على بناء علاقات قوية وعميقة مع الآخرين و مواقفه و تركيزه ونظرته دائماً تركز على الجانب الإنساني لأي شخص والجميع منبهر به كمثقف من طراز رفيع ذو بصمة ثابتة. و له مخططاته لإخراج أفضل ما في الأشخاص وقد كان أن ناقشنا سوياّ الكتب والمفاهيم والمفارقات والمقارنات وهو خير جليس لكل الأزمان، ” لأنه بجد مكتب، يعني شامل و كامل” كما نقول بالدارجة.
لنا صولات و جولات جمعتني به والباشمهندس جون أندرو باناك الشهير والمعرف بـ ( البعاتي) والأستاذ أحمد يعقوب ومواقف كثيرة ومضحكة لا تنساها الذاكرة. اتصل علي قبل فترة و عندما التقيته بالطابق العاشر بفندق (بريميدز) وجدته مع مجموعة من الشباب الصغار تتراوح أعمارهم بين 14 و 17 سنة وكانوا مجموعة من أفضل الرسامين الجنوبيسوادنيين في السوشيال ميديا أمثال تعبان و جالفان وآخرون و هم في الأصل فنانين كبار لمستقبل البلاد، ناقشهم بكل أدب و احترام مقدّراً مجهوداتهم وأوصاهم بأن لا يتركوا مجالهم الجميل مهما كانت التحديات، وقد كنا والاستاذ اتيم سايمون المحترم حضورًا في ذاك الاجتماع.
طموح واهتمامات دينق قوج أكبر بكثير من جسده النحيل، لم أجد في حياتي رجلا أظرف منه وأذكر أنه في ذات مرة كان قد دعانا لحضور حفل نهاري بمنتجع (دافنشي) وكنا بصحبة مولانا ارنق سي و مولانا ماتيلدا روبيرت و مولانا مارسا وأثناء ما كنا في كامل نشوتنا بالأغاني الكنغولية طلب أغنية وطالت مدّة انتظاره للأغنية . حينها راح في قيلولة على الكرسي لما يقارب 40 دقيقة وعندما بدأت الفرقة في عزف أغنيته المحببة فاق من قيلولته وبدأ يغني الاغنية مع الفرقة وكأن شئ لم يحدث.
كان دينق قوج شخص متواضع وبسيط في طريقته للسلام والتحايا ، يذهب للأشخاص في أماكنهم مهما كانت مكانتهم و مستواهم الاجتماعي. رأيت الأسطورة لول دينق رئيس اتحاد كرة السلة جنوب السودان يسلم عليه بكل محبة واحترام . وعندما هزمنا الصين ببطولة كأس العالم لكرة السلة بالفلبين بكى كبكاء المسيح وقفز مثل الأطفال فرحاً والدموع تملأ عينيه في مشهد عاطفي لا تمحوه الأيام لرجل خمسيني لا يبالي بشيء ولا يتنكر يعيش المواقف واللحظات كما يراها هو، كم هو مذهل إهتمامه بكل قضية حتى الصغيرة ، والصغيرة عنده كبيرة، كان الرجل ( مكنة كبيرة) كما نقول.
الكل يعرف دينق قوج عن قرب كعضو برلماني وكاتب صحفي و صاحب دار نشر، وأما أنا ومن حولي نعرفه كبروفيسور في شؤون الفضاء والأرض والاجتماع، البحار والمحيطات والأسرار الخافية في الظلمات. الفيلسوف و الخبير الاقتصادي وهو سياسي ضليع وشيخ في خلاوى الفنون. يعتبر دينق قوج أحد ركائز وأعمدة المجتمع والمعرفة والفن الأصيل والكلمة الملتزمة. كان أيقونة ومرشد لمن يبحث عن الشهرة و المال والأعمال وكان نعم الأخ والصديق فهو انسان يستحق الاحترام والتقدير يتمتع بشخصية وكاريزما بدرجة عالية وله رؤية ونظرة استراتيجية لحل المسألة، فالمعروف لا يعرّف، فجمائله ومواقفه كثيرة ما لا تحسب ولا تعد.
نشأ و تربى في بيئة مشابهة لنا فهو مزارع بالفطرة مثل تلك الشجرة التي تثمر في كل مكان وتعطي ثمارها للمتواجدين من حولها وخارج محيطها. شخصية لا تمل أبداً ولا تفقد الأمل، دينق قوج الإنسان يعدّ من القلائل الذين استطاعوا أن يصنعوا الفارق بأسلوبه و مركزه وببساطته فهو مرح وطيب القلب وجميل جمال الروح والأخلاق. وفي وقت الصراعات كان يعرف أدب الخلافات والمبادئ والقيم السامية، له مقولة يكررها دائما عند مواجهة الصعاب ويقولها بشجاعة ” حتى لو العشرة هانت انا علي ليك حق الولف” ويقولها لأي شخص مختلف معه. كان نباتيًا وبسببه عشقنا ” بيتزا الخضار بالشطة الخضراء والخدار سبب الوجع”.
خبر وفاته خبر مؤسف وصادم للرأي العام تناولته كل الصحف والقنوات العالمية والإقليمية والمحلية وشغل كل العناوين الرئيسية والفرعية والجانبية لقد عمّق موته جراحات بلادنا الجريحة. وبرحيله المُر هذا نمر بأسوأ مراحل العمر والفقدان لأن فقده جلل، وهنالك أسئلة تبحث عن أجوبة، وحكايات لم تحك بعد، ومواقف كثيرة وحضور لا ينسى للراحل ولا يوجد من يملأ هذا الفراغ. كان بمثابة رقم لا يمكن تجاوزه ومرجع في أمور الدنيا والدّين، فاسترح في قبرك يا دينق قوج! ونحن بك لاحقون.
وداعا الخبير والأستاذ والإنسان: دينق قوج ايويل.