حركة الشيء بإتجاه اللغة. أرونداتي روي

 

ترجمة : عنّاب عُلمان

مقدمة:

تعتقد ارونداتي روي أن كتابة الروايات هي طريقة لممارسة العمارة بشكل ما ، مستندة بذلك على خلفيتها الدراسية في مدرسة دلهي للتخطيط والعمارة – الخلفية التي تشوّب عملها ككاتبة – واطروحة تخرجها التي كانت عن المدينة، مدينة دلهي ما بعد الاستعمار . وعلى خلفية التبصُّرات المعمارية هذه ، تشرح روي وتعلل سبب الكثافة والغِنى الغير محتمل في روايتيها ” إله الأشياء الصغيرة” و ” وزارة السعادة القصوى” بأن هذا حدث بشكل طبيعي تقريبًا، فهي لم تقرر ذلك، بل كتبت روايتيها – دون وعي منها – بالطريقة التي تُبنى بها المدينة ،فكانت الأجزاء تظهر ببطء هنا وهناك وفي أماكن أخرى حتى تكوّنت لنا في النهاية الصورة البانورامية للمدينة / الرواية.

ارونداتي روي، في هذه المحادثة التي أجرتها معها صانعة الأفلام و الكاتبة شوهيني غوش تكشف لنا الروابط بين مساحة الرواية و انشاء ضواحي المدن في روايتها و وزارة السعادة القصوى، هذه الوزارة التي مقرها المقابر، وهذه الأخيرة بوصفها مساحة حضرية ذات أبعاد و دلالات. تحدثت شوهيني غوش مع روي عن الروابط بين فضاء الرواية ومحيط المدينة المبني وكذلك الأزمات السياسية واحتجاجات المزارعين واسعة النطاق التي هزت دلهي وترددت أصداؤها في جميع أنحاء العالم أثناء فترة كوفي 19.

أول ما تصدمنا به روايات روي هو حركة الشيء بإتجاه اللغة كما تصف جيهان الجندي رواية إله الأشياء الصغيرة التي تتخذ حيزًا في كيرالا، تحديدا قرية ايمينيم، فهي لا تقوم بإعداد خطة للكتابة، أو خريطة، لكنها تجمع فقط الكثير من الملاحظات، و يعمل لا وعيها على بناء الكتاب الذي هي بصدد تأليفه. تحكي أنها لم تبدأ بكتابة ما أصبح في نهاية المطاف افتتاحية رواية وزارة السعادة القصوى بل كتبت أولًا المنتصف ـ وصف المدينة التي يولد فيها الطفل وحيدًا على الرصيف – و الصفحات الأولى مع النسور كتبتها في نهاية فترة كتابتها للرواية . لم تقوم بإعادة كتابة النص بقدر قيامها بنقل أجزاء منه فحسب.

تختتم روي حديثها مع غوش بفكرة شمولية الكون فهي غير قادرة على النظر إلى العالم، أو حتى التفكير فيه، مع وجود البشر فقط في مركزه. و تسأل : كيف يمكننا أن نأخذ أي شيء – أي خطاب أو أي أيديولوجية، أي دين حتى – يتمحور حول البشر فقط ؟ ففي “إله الأشياء الصغيرة” يلتّف المشهد وسكانه من غير البشر حول أبطال الرواية من البشر و لكن حتى في “وزارة السعادة القصوى ” فإن غير البشر جزء لا يتجزأ من الحياة. و تشير إلى أن هنالك الكثير من النشاطات غير البشرية حتى في أكثر مدننا الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية، و هي ليست مجرد حيوانات أليفة على المقاود. فهناك مؤتمرات الغراب، و إجتماعات كلاب الشوارع، و إجتماعات الخيول، وجنون القرود، وكل هذا يحدث في المدينة / الرواية على حد سواء و كل ما عليك فعله هو أن تُبقي عينيك وأذنيك مفتوحتين – ونعم قلبك أيضاً – وستظهر مدن أخرى و قصص مدن أخرى كاملة.

عن هذا  الحوار :

” الرواية تعطي الكاتب الحرية ليكون معقدًا بالقدر الذي يريد، ليتحرك في الزمن وبين العوالم و اللغات و المجتمعات و الطوائف و السياسات” .

  • ارونداتي روي

بعد أن صعدت روي إلى الشهرة العالمية بروايتها “إله الأشياء الصغيرة” (1997) الحائزة على جائزة البوكر، أصبحت صوتًا فريدًا في الأدب المعاصر، حيث أنتجت أعمالًا روائية مثيرة للاهتمام، إلى جانب إنتاجها الهائل من المقالات التي تتناول الطبقية والجنس والسياسة بوضوح أخلاقي وإلحاح يعكس دورها كناشطة ملتزمة. ولدت روي في مدينة صغيرة شمال شرق الهند، ثم توجهت نحو دلهي لدراسة العمارة و هو ما أصبح لاحقًا خلفية تشوب عملها ككاتبة.

في هذا الحوار تستهل شوهيني غوش صانعة الأفلام و كاتبة المقالات حديثها مع روي عن الروابط بين مساحة الرواية و انشاء ضواحي المدن. تحدثت الكاتبة شوهيني غوش مع روي عن الروابط بين فضاء الرواية ومحيط المدينة المبني وكذلك الأزمات السياسية واحتجاجات المزارعين واسعة النطاق التي هزت دلهي وترددت أصداؤها في جميع أنحاء العالم. وتخلل حوارهما صور التقطها المصوّر مايانك أوستن صوفي، المعروف بحسابه الشهير على إنستغرام المسمى “ذا دلهي والا”، و هو مصور فوتوغرافي تعتبره روي أحد أفضل مؤرخي المدينة وأكثرهم رقة.

نص الحوار:

شوهيني غوش :

كيف انتهى بك المطاف في دلهي؟

ارونداتي روي :

لقد كان هروبًا محكم الإعداد له من القرية و المدينة الصغيرة بالقرب من المكان الذي نشأت فيه في كيرالا. عندما كنت طفلة كنت محاطة بطبقات مركزية من الخوف و الفزع الذي كان مصدره منزلي و عائلتي بالإضافة إلى المجتمع. أمي تزوجت شخص من خارج مجتمعها – المجتمع المسيحي السوري المنغلق للغاية والطائفي والنخبوي في ولاية كيرالا – و بعدها ارتكبت جريمة أخرى فوق جريمتها الأولى؛ تطلّقت من ذلك الشخص و بذلك أصبحنا أنا وأخي بما أننا لا ننتمي إلى أي طبقة إجتماعية قمعية أو مجتمع ما كان علينا أن نفهم، بمليون طريقة مختلفة فظة و غير فظة، ذلك أننا لا ننتمي إلى المنزل الذي نعيش فيه او المجتمع الذي تنتمي إليه عائلة أمي. بالنسبة لي كانت الرسالة واضحة :

 

” لا أحد سيرغب في الزواج بك ”

لماذا بحق الجحيم قد أود أن انتمي إليهم ؟ لماذا قد أرغب في أن اتزوج شخصًا منهم ! و تطلّعتٌ إلى الهروب”.

ش. غ : كم كان عمرك؟

أ.ر : هربت في العام ١٩٧٦عندما كنت في السادسة عشر و أدركت بأنني يجب أن أحصل على تعليم يمكّنني من أن أصبح مستقلة ماديًا. فأخترت أن أدرس الهندسة المعمارية و كنت حينها متأثرة بشكل عميق بأفكار المعماري لوري بيكر الذي بنى المدرسة التي قامت بتأسيسها امي و إستمرت في إدارتها وكنت قد تعلمت هناك لسنوات طويلة، “بنية بلا تكلفة” هكذا صنف بيكر عمله، فأجمل المباني التي شيدت دون تكلفة غالية هي مباني تهدد الصناعة، لذا وفي السادسة عشر فورًا بعد أن اكملت المرحلة الثانوية كنت في متن القطار المتوجه إلى دلهي للجلوس لامتحان الدخول إلى” S P A ” مدرسة دلهي للتخطيط و العمارة. أخذت الرحلة إلى دلهي ثلاثة أيام و  ليلتين و كنت بعدها قد وصلت إلى عالم جديد كليًا. عندما اتممت السابعة عشر و كنت في سنتي الثانية في الكلية توقفت عن الذهاب إلى المنزل ولم أذهب لسنوات طويلة بعد ذلك، لقد شققت طريقي في الجامعة – بالطبع كان هذا ممكنًا في ذلك الوقت – الآن الأشياء تغيرت والآن يغلق التعليم العالي أبوابه أمام من لا يملكون المال.

كل يوم أشعر بالامتنان إلى هذه المدينة التي حررتني، الآن بتُّ أعود إلى المنزل في كيرالا، تلك الجروح القديمة شُفيت لكنها ما تزال كامنة في سطح جلدي.

ش. غ : ما الصور التي تتذكرينها أكثر للمدينة في ذلك الوقت؟

أ.ر : أتذكر الحماسة، رائحة الحرية، و البهجة في فكرة إنني مجهولة الهوية، جهل الهوية شيء مستحيل في القرى و المدن الصغيرة في الهند، بالنسبة لي كانت تلك أعظم هدية من الممكن أن يحصل عليها شخص ما؛ الإمكانية المجردة  للمرح.

لقد كنتُ راديكالية للغاية عندما وصلت، لم أكن أملك أدنى فكرة عن ضخامة حجم المدينة  ومساحتها، ذهبت إلى موقف “الركشات” في محطة القطار و سألت السائق ان يوصلني إلى منزل السيدة جوزيف، ما زلت اضحك بصوت عالي حتى الآن عندما أتذكر وأفكر في تلك الحادثة، السيدة جوزيف كانت اخت أمي – مسيحية صالحة، محترمة و ملتزمة – كانت تعيش في دلهي آنذاك. كنت سأبقى معها لكن لم تكن مسرورة بقدوم ابنة أختها غير الملتزمة و أوضحت ذلك بوضوح شديد لذا حرصت على أن ألحق بها نفسي و تصرفاتي الفاحشة بقدر ما أستطيع.

كما كنت خائفة جداً من المدينة، هذا بسبب الأفلام التي شاهدتها أثناء نشأتي في ذلك الوقت، في كل أفلام المالايالام تقريبًا كانت البطلة تتعرض للاغتصاب، كان الاغتصاب دائمًا مصممًا بشكل محبب و بطرق مبتذلة : انعكاسات في مروحة السقف أو زهور تتساقط من سيقانها أو أي شيء آخر. في نهاية المطاف كان هناك نساء محطمات تمامًا ونتيجة لذلك نشأت على اعتقاد أن كل امرأة لا بد أن تتعرض للاغتصاب و كان ذلك مجرد مسألة أين و متى! لذلك و في تلك العربة الآلية “الركشة” وأنا في طريقي إلى منزل السيدة جوزيف في دلهي، أمسكت بسكين مخبأة في حقيبتي كنت على استعداد تام للقاء مستقبلي ضمن النساء اللواتي بطريقة أو بأخرى سيتعرضن للاغتصاب .

كانت الأيام القليلة الأولى في المدينة مخيفة ولكن بعد ذلك كانت هناك مدرسة الهندسة المعمارية “جنة الفوضويين” حينها عرفت أنني هربت إلى الأبد و إنني سأكون آمنة بطريقة خطيرة نوعاً ما.

ش. غ : قبل أن تكتبي “إله الأشياء الصغيرة”، كتبتِ نصين سينمائيين،  ” فيما تعطي آني تلك الأشياء ” (1988) و”قمر كهربائي” (1992) فهل لعبت المدينة دوراً في تشكيل شخصيتك ككاتبة ؟

 

أ.ر : تدور أحداث فيلم “آني” حول طلاب في مدرسة الهندسة المعمارية و هم أطفال هيبيون منتشون يرتدون ملابس هيبية في السبعينيات. آني في الواقع رجل يدعى أناند جروفر، الذي يعيد سنته الأخيرة للمرة الرابعة وهو ضحية ثأر أحد الأساتذة، لكن آني غريب الأطوار بعض الشيء، مهزوم بعض الشيء، إنه يربي الدجاج و الأرانب في غرفته في السكن الجامعي و هو مهووس بكيفية التعامل مع ما يسميه “الهجرة من الريف إلى المدينة”. على الرغم من أنني اخترت الهندسة المعمارية بسبب نوع من اليأس للبدء في كسب لقمة العيش، إلا أن السنوات الخمس التي قضيتها هناك أرست الأساس للطرق التي أرى و أفكر بها الآن .

و بحلول الوقت الذي كنت فيه في سنتي الأخيرة كنت مهتمة بالدراسات الحضرية بقدر اهتمامي بالعمارة. لم تكن أطروحتي أطروحة تصميم لا، بل كانت عن المدينة، مدينة دلهي ما بعد الاستعمار و كيف أصبحت على ما هي عليه، وما الذي تفعله هذه المدينة بالناس الذين يعيشون فيها. المدينة الغير متمدنة، المواطن المرحب به والذي صُنعت المدينة وقوانينها من أجله، و المواطن الغير متمدن و الغير مرحب به والذي يعيش في الشقوق بين المؤسسات والذي يخرق القوانين كما يخرق خيال المصمم الحضري، الذي يتغوط فوق نظام الصرف الصحي. كانت تلك العدسة هي طريقتي في النظر إلى مدننا، و لقد بقيت معي خلال نصوصي السينمائية ورواياتي.  كانت المدينة و لا تزال بالنسبة لي قصة رائعة لا تنتهي. إنها رواية ذات شخصيات تظهر وتختفي و تشكل الفضاء المادي من حولها.

 

ش. غ : عندما قمتِ بكتابة “إله الأشياء الصغيرة”، كنتِ تعيشين في دلهي وتكتبين عن مكان بعيد مكانياً و بعيد من حيث الزمان أيضاً، كيف نجح ذلك؟

أ. ر :  لم يبدو الأمر مهماً على الإطلاق. فالقرية التي ترعرعت فيها، حيث مصانع مخللات الجنة، والمناظر الطبيعية و الناس، النهر الأخضر، و أشجار جوز الهند التي تنحني فيه، القمر الأصفر المنكسر المنعكس في النهر و وميض الأسماك – أنا مكوّنة من كل ذلك، أنا كل تلك الأشياء فأينما ذهبت كنت أعرف كل نبات ودودة و سمكة وحشرة؛ كانوا شخصيات في حياتي. و بقدر ما كان البشر من حولي ظالمين عندما كنت أكبر، كان النهر والحشرات والمطر والطين رفاقي. لكن ربما استحضرتُ المشهد الطبيعي لكيرالا بشكل أكثر وضوحاً في كتاب “إله الأشياء الصغيرة” لأنه كان مختلفاً تماماً عن المكان الذي كنت أعيش و أكتب فيه.

 

ش. غ :  بالنسبة لي كانت تجربة قراءة كتاب “وزارة السعادة القصوى” أشبه بتعلم التنقل في مشهد غزير. في أحد فصول الكتاب، تصطحب شخصية تُدعى خديجة أحد أبطال الرواية، تيلوتاما (أو تيلو) في رحلة عبر مدينة ما في كشمير. تسافر المرأتان معاً، و أنا أقتبس هذه الفقرة : “عبر متاهة من الشوارع الضيقة المتعرجة في جزء من المدينة التي بدت مترابطة بطرق عديدة ، تحت الأرض وفوق الأرض، عمودياً وقطرياً، عبر الشوارع والأسطح والممرات السرية، مثل كائن حي واحد، كالمرجان العملاق أو عش النمل” يمكن أن يكون هذا وصفاً جيداً للمدينة التي تعجّ بالسعادة القصوى و التي تتكشف في أزقتها العديد من الروايات المترابطة في الرواية. فهل كان لتدريبك كمهندسة معمارية و مخططة حضرية تأثير على هيكلة الرواية؟

ا. ر : في دلهي تتجلى المواجهة بين المدينة والريف الكوكب المنهوب في دلهي بطريقة حرفية؛ نعم المدينة كرواية – الرواية كمدينة – حقاً أفكر هكذا و لا أقصد فقط المشهد المادي لكلٍ من المدن والروايات. بل أقصد أكثر من ذلك، بطريقة تصميم شيء ما، ومن ثم يتم تخريب هذا التصميم، و التربص به وتطويقه وتحويله إلى شيء آخر، ثم يصبح كل ذلك جزءاً من تصميم آخر، و هكذا دواليك. شيء ما يشبه الطريقة التي تنقش بها أشكال المدن نفسها مكانياً على سطح الأرض كمتميزات – المدن – عن الريف غير المتبلور الذي يحيط بها. لها شكل ومنطق ليس واضحاً على الفور، باستثناء المدن الإمبراطورية التي تم إنشاؤها بأمر من الله ومرسوم ما، لكن تلك أيضًا يتم تخريبها.

في الرواية كذلك يحدث هذا كثيرًا في السرد و مع ذلك ما أن تبدأ في العيش في مدينة السعادة القصوى الروائية حتى تفهم أن الفوضى الظاهرة مصممة. فهي أيضًا لها مساراتها تحت الأرض و فوق الأرض ومساراتها المائلة التي تترابط فيما بينها لها منطقها المعقد الخاص بها.

إذا كنت تتذكري هناك مقطع تفكر فيه شخصية تيلو في المدينة و في هذا المقطع نوع من التأمل اليقظ. إنها – تلو – تفكر في المدن كأنها ضوء النجوم الذي يسافر عبر الكون بعد فترة طويلة من موت النجوم نفسها “فوّارةً، فوّارة، تحاكي وهم الحياة بينما الكوكب الذي نهبوه يموت من حولهم”، إذًا هناك ذلك الوعي ليس فقط بالمدينة، بل بمعنى المدينة. الآن في دلهي تتجلى المواجهة بين المدينة – مقر السلطة السياسية و الاقتصادية – والريف ” الكوكب المنوب” بطريقة حرفية . ففي الوقت الذي نتحدث فيه الآن انتفض ملايين المزارعين احتجاجًا على ثلاثة قوانين زراعية جديدة ستضع مقاليد السيطرة على الزراعة الهندية في أيدي الشركات الكبرى.

و على مدار السنوات العشرين الماضية انتحر مئات الآلاف من المزارعين الذين وقعوا في فخ الديون، و كثيرين منهم انتحروا بشرب المبيدات التي أجبروا على استخدامها لزراعة محاصيل يريدها السوق و لا تدعمها أراضيهم. والآن مع هذه القوانين الجديدة يواجه هؤلاء المزارعون أزمة وجودية. بحيث وصل مئات الآلاف منهم إلى ضواحي دلهي و يطلق على هذا التجمع أكبر احتجاج في تاريخ البشرية و قد قامت الحكومة بتحصين المدينة بالحواجز الخرسانية والأسلاك الشائكة والمسامير الحديدية، و يقوم الآلاف من رجال الشرطة و القوات شبه العسكرية بدوريات في المنطقة. لم تعد الحدود مجرد حدود وطنية، فثمة معارك جديدة تتكشف. في “وزارة السعادة القصوى ” تنطوي هذه الصراعات على بعضها البعض – النضال من أجل الحرية في كشمير، و صعود القومية الهندوسية في الهند و الصراعات العديدة البيئية والسياسية التي تهجّر الناس و تدمرهم بطرق لا تعد ولا تحصى، كل هذا متصل ببعضه البعض مثل متاهة شوارع المدينة. عندما أعلن مودي عن” الإغلاق” أصبح من الواضح أنه لم يكن لديه أي فكرة عن البلد الذي يشغل فيه منصب رئيس وزرائه.

 ش. غ : في احتضانها الرائع للبشر (الأحياء والأموات) والمخلوقات (الطيور والثدييات والحشرات) والأماكن (من البائس إلى الفردوسي)، نتخيل رواية “وزارة السعادة القصوى ” عالماً يكون فيه غير البشري جزءاً لا يتجزأ من الإنسان. حتى في رواية “إله الأشياء الصغيرة” فإن العالم الذي تتكشف فيه الرواية لا يقل أهمية عن أبطال الرواية أنفسهم.  يبدو لي أن مأزق الإنسان في عالمك مرتبط ارتباطاً وثيقاً بغير الإنسان؟

أ. ر :  في الواقع لا يلاحظ الجميع ذلك، أتذكر أن إحداهن أخبرتني أنها كانت تعتقد أن أزيز الحشرات والمخلوقات الأخرى في “إله الأشياء الصغيرة” مثل نوتة موسيقية في الخلفية. كانت تسمعهم. لكني غير قادرة على النظر إلى العالم، أو حتى التفكير فيه، مع وجود البشر فقط في مركزه. كيف يمكننا أن نأخذ أي شيء – أي خطاب أو أي أيديولوجية، أي دين حتى – يتمحور حول البشر فقط؟ إنه نوع من العنف. عنف أحمق عديم الجدوى، عديم النظر.

بالطبع في “إله الأشياء الصغيرة” يلتّف المشهد وسكانه من غير البشر حول أبطال الرواية من البشر و لكن حتى في “وزارة السعادة القصوى ” فإن غير البشر جزء لا يتجزأ من الحياة.

هناك الكثير من النشاطات غير البشرية حتى في أكثر مدننا الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية، و هي ليست مجرد حيوانات أليفة على المقاود. فهناك مؤتمرات الغراب، و إجتماعات كلاب الشوارع، و إجتماعات الخيول، وجنون القرود.

كل ما عليك فعله هو أن تُبقي عينيك وأذنيك مفتوحتين – ونعم قلبك أيضاً – وستظهر مدن أخرى و قصص مدن أخرى كاملة.

 

 

ش. غ : لقد غيّرت جائحة كوفيد-19 والإغلاق التام في مارس 2020 صور المدينة و خيالها. فبينما كان غالبية السكان محبوسين في منازلهم، غامرتي بالخروج إلى الشارع  فماذا رأيتِ ؟

أ. ر :  رأيت ما رآه بقية العالم و لكن ليس فقط على شاشة هاتفي المحمول. عندما أعلن مودي عن الإغلاق الأكثر صرامة و فظاظة في العالم، مع إعطاء 1.3 مليار شخص منا إشعاراً قبل أربع ساعات فقط أصبح من الواضح أنه لم يكن لديه أي فكرة عن البلد الذي هو رئيس وزرائه. لقد كان فقط يقلد ما كان يجري في الولايات المتحدة وأوروبا ولكن بطريقة أكثر استبداداً وسلطوية. في الأسبوع السابق لذلك كان قد طلب من الناس أن يخرجوا إلى شرفات منازلهم ويضربوا على القدور والمقالي ويقرعوا الأجراس!

بسبب الضغط الجسدي في اليوم التالي لإعلان الإغلاق، أفصحت الهند عن أسرارها الرهيبة ليراها العالم. فقد وجد الملايين من أبناء الطبقة العاملة المختبئين في شقوق المدن الكبرى – غير المواطنين / المواطنين غير المتمدنين في أطروحتي للهندسة المعمارية – الذين يعملون مقابل أجر زهيد في وظائف غير رسمية وغير منظمة، وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل وغير قادرين على دفع إيجار المساكن الضيقة التي يعيشون فيها. بدأت هجرة جماعية – هجرة جماعية في حجمها – بدأ الملايين من العمال و عائلاتهم بالسير آلاف الأميال إلى قراهم. وفي الطريق تعرضوا للضرب من قبل الشرطة و للضرب بالخرطوش، و قتلوا بالقطارات أثناء سيرهم على قضبان السكك الحديدية واحتجزوا في معسكرات الإيواء. ما إن رأيت شوارع مدينتنا تتحول إلى نهر من لاجئي كوفيد حتى خرجت. رأيت المشاهد على الحدود بين دلهي و أوتار براديش. سرت لمسافات في الطريق مع بعض الأشخاص الذين كانوا يسيرون على الأقدام.

 

ش. ع : بعد مرور أكثر من عام ماذا كانت النتيجة بالنسبة للمدينة ؟

أ. ر : إن نتيجة هذا الإغلاق الذي لم يكن إغلاقاً هو إنتشار الفيروس في جميع أنحاء الهند. و لحسن الحظ لم يثبت أنه كان مدمراً أو قاتلاً كما كان – و لا يزال – في البلدان الأكثر ثراء. لكن الإغلاق تسبب في انهيار الاقتصاد المتباطئ بشدة بالفعل. و ساعد في إنهيار الإقتصاد الحضري و أظهر الناتج المحلي الإجمالي للهند نمواً سلبياً عميقاً. في كل هذا الدمار، وعلى الرغم من أن الزراعة في أزمة بشكل عام إلا أنه خلال جائحة كوفيد-19، أستمر المزارعون بالعمل في حقولهم، لذلك لم تكن لدينا أزمة في إنتاج الغذاء. و لكن إذا لم تكن كل هذه الفظائع غير كافية، فقد تعرض المزارعون أيضًا لضربة قد لا يتعافون منها. ما لم نقف جميعاً معهم و نجبرهم على إلغاء هذه القوانين الجديدة.

إليكم الفصل الأخير من القصة – قصة المدينة والمدينة القصة – ففي العام الماضي أُجبر ملايين العمال على مغادرة المدينة. وهذا العام وصل ملايين المزارعين إلى أطرافها و بين هذين الحدثين تكمن حكاية ملحمية ،هي قصة عصرنا.

 

شوهيني غوش : أستاذة في مركز A J K لأبحاث الاتصال الجماهيري في الجامعة الملية الإسلامية في نيودلهي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى