حربْ السّودان أيُّ سياقٍ وأيّ قِراءة؟

أحمد يعقوب

 

ليس هناك مجالٌ للإختلاف؛ حول أنّ الحرب في السّودان هي نتاج تناقضات داخلية تاريخيّة، بل الحقيقة أنّ السّودان كان في حربٍ مع نفسه ماقبل إستقلاله. إذْ بهذه الحرب، وصلت تجلّيات التّناقضات الدّاخلية إلى المرحلة التي أصبحَ فيها العُنف ناتجاً نهائياً ومنطقياً للإختلالات البنيوية والتناقضات المُتمثلة في قضايا الهُويّة والثّروة والسّلطة ؛ والتّهميش بكل أنواعه، ودخول البلاد كلّها في أتون الحرب. ودون الغوص تاريخيّاً في المشكل السّوداني العويص؛ تبقى المقدمة القصيرة أعلاه، هي السّياقات الداخلية والقراءة لما أفرزته أحداث الخامس عشر من أبريل.

ولكن؛ أيّ قراءة للحرب الدائرة الآن في السّودان تنطلق من التّناقض السّوداني الدّاخلي فقط ومشكلاته وتفسّره في أطره الدّاخلية؛ هي قراءة مُصابة بقصر النّظر وإنعدام الحساسية السّياسية التي يعيشها الإقليم والعالم؛ وأي سياقٍ توضع فيه هذه الحرب متجاوزةً مشروعات الرؤية الكبيرة للمشاريع الغربية هو سياق مُعاق.

مفهوم الدولة الغربية كسياق إستعماري جديد:

بعد مرور ما يربو على قرن على تقسيم إفريقيا عبثياً بأيد غربية، على مائدة مؤتمر برلين في الخامس عشر من نوفمبر 1884م، برغم استناده لخطوط هندسية توحي بتنظيمه للوهلة الأولى، إلا أنه لم يراع الاعتبارات الاجتماعية والثقافية والتاريخية للقارة، ومرور نصف قرن على استقلال جلّ البلدان الإفريقية مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، تمخّض عنه استيراد (الدولة القومية) واعتمادها كإطار مؤسسي قانوني وسياسي حاكم لبلدان القارة، لم تحقّق معظم البلدان الإفريقية – بعد هذه العقود – طموحات شعوبها، وآمالها في التنمية، بل قد ساهمت الصيغ المستحدثة للدولة بصورة أو بأخرى في إذكاء الاضطرابات والصراعات في القارة، ليستمر هذا الواقع السياسي المستحدث لـ (الدولة) على أساس الحدود الفلكية والهندسية لمؤتمر برلين والمشكلات التي ورثتها، أو صاحبتها ونتجت عنها.

وعليه؛  سنرى  أنّ عقودٍ من استيراد (الدولة) بصيغتها الغربية الراهنة، وما لحق هذا الاستيراد من تشوّهات معتبرة في الواقع الإفريقي؛ من بين مسبباتها استمرار وجود (القبيلة) كمؤسسة رئيسة في مساحات سياسية واجتماعية واقتصادية حتى ثقافية، استمرت محلّ تنازع مع الدولة، واضطرابات وصراعات في القارة، أثّرت بصورة معتبرة في القرار السياسي والتكتلات بين دول القارة؛ لتنتهي بها إلى قائمة (الدول الفاشلة)(1). وهو مصطلح صاغه الغرب للتمهيد لاستعمار جديد عبر مشاريعه المتعددة ووكلائه المحليين والأجانب وتهدف هذه المشاريع فيما تهدف الى اعادة صياغة وتشكيل الدول الافريقية.

يُشير المصطلح الإنجليزي Creative Chaos  إلى ” الفوضى الخلّاقة” وهو مصطلح سياسي ينسب إلى المستشرق اليهودي برنارد لويس الذي دعا للفوضى الخلّاقة في الشرق الأوسط والعالم العربي” إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية”(1) . في العام 2005  أدلت وزيرة الخارجية الاميركية السابقة كوندليزا رايس بحديث صحفي للواشنطن بوست، متحدثّة حول نية أمريكا  نشر الديمقراطية بالبلدان العربية والبدأ بتشكيل مايُعرف ب «الشرق الأوسط الجديد. حيث رأت الولايات المتحدة بأن دعمها للإستبداد في الشرق الاوسط  هو ما أدي لهجمات بُرجي التجارة في العام 2001.

وبعيداً عن نظرية المؤامرة التي أحاطت بمصطلح ” الفوضى الخلّاقة” المنسوبة للوزيرة وهي نظرية غير متفق عليها في الكتابة الأكاديمية حيث أنّها بحاجة للتقعيد النّظري، وقد حاجج بعض الباحثين السياسيّين،  بأن كوندليزا رايس قالت بما يفيد بأن الشرق الأوسط بحاجة إلى تغيير أو (شرق أوسط جديد) لأنَّ انتشار التطرف والأصولية الإسلامية يعود إلى غياب الحراك السياسي السلمي.

وفي لقاء آخر أشارت إلى ولادة شرق أوسط جديد لا يتقاطع بديناميكياته السياسية مع القديم، من دون الإشارة من قريبٍ أو بعيد (لنظرية الفوضى الخلاقة) ومن دون أن تذكر أو تشير صراحة إلى مفهوم أو نظرية الفوضى الخلاقة في مقابلاتها أو في مذكراتها أو مقالاتها. بل لم تشر أي مجلة علمية أو أبحاث أكاديمية رصينة مكتوبة باللغة الإنجليزية لهذه النظرية.

أسوق الخُطاطة أعلاه؛ لأبيّن إلى أيّ مدى تأخذ المنطقة التي تقع فيها الجغرافية السودانية إهتماماً كبيراً لدى الغرب ومشاريعه وأن حرب السودان ليست إلّا مقدمة لنشوء منطقة جديدة وفق خططٍ تهدف إلى تخليقها والسّيطرة عليها،. وبعيداً عن نظريات المؤامرة ، يمور العالم اليوم بأحداثٍ مُتسارعة ومترابطة بعضها بالبعض، ولا يمكن الحديث عن سياسةٍ في بلد ما وأحداث ؛ دون الاشارة إلى الظّرف الإقليمي الذي يتواجد فيه البلّد المُحدد، إلا إذا إعتبرنا أن البلدان عبارة عن جزر معزولة لا تتأثّر بما يتم التّخطيط له في الإقليم والعالم.

إن الحرب في السّودان؛ أسباب قيامها لا تكمْن فقط في العوامل الدّاخلية ؛ وبل وإن التناقضات الدّاخلية نفسها متأثرة بالخارج بطريقة أو أخرى. الحرب السّودانية في السّياق والقراءة الأخرى، هي حربٌ تتشكّل ضمن مشروعٍ كبير يخطّط له في منطقة القرن الإفريقي ودول حوض النّيل وشرق أفريقيا، وما السّودان إلا دولة واحدة في هذا الصراع الذي سوف يجتاح شرق القارة كلّها، ضمن المخطط الكبير والذي يهدف فيما يهدف إلى تعطيل أي عملية استقرارٍ في هذه المنطقة بل واثارة الزّعزعة، والسّيطرة على الموارد والمياه، بالإضافة إلى ممرات التجارة العالمية وهو ما يحتاج تنفيذه إلى ضعف وعدم استقرارٍ في هذه الدول حتى يكتمل مشروع الهيمنة المطلقة.

يشمل القرن الفريقي دول كـ( الصومال ، ارتريا، جيبوتي ، أثيوبيا) بينما دول حوض النيل تشمل( السودان، جنوب السودان ، ارتريا، اثيوبيا، بوروندي،جمهورية الكنغو الديمقراطية، أوغندا ، رواندا، تنزانيا ، كينيا ، مصر) بالإضافة إلى تكتل (مجتمع شرق افريقيا) ويشار له اختصاراً بـ(EAC) وهو تكتّلاً أسس في العام 1967 وتم حلّه العام 1977 وأعيد تأسيسه مرة أخرى في السابع من يوليو ا لعام2000 ويضم( بوروندي وكينيا  وجنوب السودان وتنزانيا  وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا).

ويمكن للقارئ رؤية هذه الدول التي تتداخل مصالحها هنا وهناك وهي عبارة عن حدود مفتوحة . تُعد منطقة حوض النيل الشرقي موقعاً ذا أهمية جيوسياسية بالغة، ، لقربها من خطوط التجارة الدولية عبر البحر المتوسط، والبحر الأحمر، والمحيط الهندي، والخليج العربي. كما يتداخل حوض النيل الشرقي مع القرن الإفريقي، فنصف دول الحوض تقريباً من دول القرن الإفريقي.

ومن ثم، فإن الاضطرابات التي تحدث فيها حالياً، وصراع القوى الخارجية للحصول على موطئ قدم فيها، ينذر بالخطر والتهديد الاستراتيجي للأمن الإقليمي والمائي للدول المشاطئة على الحوض،لا سيما في ظل تغليب لغة الصراع على لغة التعاون في العلاقات بين دول الحوض، مما قد يضر بمصالح شعوب المنطقة، ويزعزع الأمن والاستقرار في دولها. هذا على مستوى المياه الذي توجد معظم احتياطاته في هذه الدول وهي حرب كونية قادمة.

تُعاني 95% من الدول المذكورة أعلاه فيما تعاني من ؛ إضطّرابٍ حاد لمفهوم الدّولة؛  الإقتتال الأهلي، الفساد، مطرقة الفقر وسندان الأمن الغذائي، الجفاف ، وباعتبارها حاضنة للقواعد العسكرية في إفريقيا.  ففي دولة مثل جيبوتي وعلى الرغم من كونها بلدًا صغيرًا للغاية لا يتجاوز إجمالي مساحته 23 ألف كيلو متر؛ إلا أنه يُعد حاضنة للقواعد العسكريّة الغربيّة في إفريقيا، وفوّهة بركان من الممكن أن تنفجر في أيّ لحظة بالنظر لتعارض المصالح بين أصحاب تلك القواعد الستّة: الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، الصين، اليابان، إسبانيا، وإيطاليا(2)..

خارطة طريق هذا المُخطّط  والمشروع ( الأمريكي الإسرائيلي/ الغربي)  يُراد له  أن يؤدّي في حال إكتمال تنفيذه النّهائي إلى سيطرة متكاملة على المشهد السّياسي والإقتصادي في هذه البُلدان….الخ. والصّين التي لم يكن لديها ماضٍ استعماري بالقارة الإفريقية، إلا أنها قوة صاعدة حاولت زيادة وجودها العسكري في منطقة القرن الافريقي، فما تفسير ذلك؟ ربما سنترك الاجابة للايام المقبلة.

لقد انتهى المشروع الامريكي – الاسرائيلي في الشرق الأوسط وخاصة بعد ثورات ” الربيع العربي”،  إلى تفكيك المنطقة وتفكّكها العراق، سوريا ؛ اليمن ؛ ليبيا…الخ وضمن هذا المشروع؛ فإن مصر اليوم مهددة ومُحاصرة. حصار مصر تم على أكمل وجه بدءاً بالتقسيم للدّولة الليبية التي تدار الآن بحكومتين وإشكاليات الحدود واللّأمن، وعلى الناحية الشمالية الشرقية تتواجد فلسطين حيث قطاع غزة الملتهب بالإضافة إلى الجانب الإسرائيلي ، وجنوباً السّودان المُهدد بالإنهيار والتّفكك؛ وفي الداخل تعاني  مصر من إشكالاتٍ اقتصادية جمّة ويتساءل المراقبون حول : إلى أيّ مدى يمكن أن تصمد مصر؟.

في مقالٍ كتبه الصحفي التركي – كمال اوزتورك عنونه بـ ” هل القرن الافريقي هو ساحة الصّراع الجديدة في العالم؟ وفي مقاله هذا أورد ” لقد سقطت في يدي مؤخرًا خريطة تُظهر فقط المجموعات العرقية والمنظمات والقبائل والمليشيات المسلحة في الصومال؛ حيث سيطرت حركة الشباب وتنظيم الدولة والقاعدة على مناطق محددة في البلاد؛ وهذا وحده أخافني.(3)

وإذا قمنا بتكبير هذه الخريطة ستشمل كينيا، وإريتريا، وجيبوتي، وإثيوبيا، واليمن، والسودان، وهذا هو المشهد بالضبط الذي تريده الدول الأجنبية التي لديها أعين في المنطقة؛ حيث تُظهر الخريطة وجود العديد من المنظمات الإرهابية التي يمكن استخدامها، والقبائل التي يمكن شراؤها، والصّراعات التي يمكن تأجيجها، وعدم وضوح الحدود، والجهل، والفقر، وعدم الاستقرار.

لماذا هذه المناطق والدّول؟ للاجابة على هذا السؤال يجدر بنا المرور سريعاً على الموارد والامكانات التي تمتلكها هذه الدّول. تمتلك هذه الدّول أكبر مساحة للأراضي الخصبة في العالم وخاصة السودان بالإضافة إلى إمتلاكها المواد الاولية للصناعات المختلفة وكميات من المعادن كما أنّها تقع خارج دائرة حزام الفقر المائي لما تمتلكه من أنهار وبحيرات ومياه جوفية وأمطار غزيزة، وتمتلك ثروة حيوانية وزراعية ضخمة هذا بالإضافة إلى المورد البشري حيث يعد عنصر الشباب هم الأكثر عددية.

ضمن هذا السّياق الكبير يجب قراءة الحرب في السّودان ؛ خاصّة حين نتساءل لماذا لا تتوقّف هذه الحرب؟.

إن هذا المشروع الغربي؛ بدأ بالحرب الشاملة في السّودان ويهدف إلى تفكيكه إلى أجزاء أو جمهوريات موز(4) ؛ ويتم هذا التفكيك الآن ويطبخ في الدوائر الخارجية، والسودان هو المدخل من المتوسط إلى هذه المنطقة ويتداخل مع هذه الدول في مختلف المجالات بالإضافة إلى التّداخل الإثني ويأخذ أهميته أكثر لموقعه الإستراتيجي جيوسياسيّاً. ونتساءل هل يعي السّوانيون بما يُحاك ضدهم؟ وهل يعرفون أنّهم ضمن مخططٍ كبير بدأ تنفيذه الآن.

يتبع………

 

 

 

هوامش:

  • تشوّهات الواقع الإفريقي.. تداعيات استيراد الدولة واستمرار القبيلة- د. السيد علي ابو فرحة – قراءات افريقية 2024.
  • مؤرشف  “برنارد لويس: صاحب نظرية نشر الديمقراطية لمواجهة “الارهاب”.
  • أمينة البربري – مجلة السياسة الدولية احدى اصدارات مركز الأهرام- الأهمية الجيوسياسية: ” ندوة ” مؤشرات لمستقبل التنمية في حوض النيل الشرقي.
  • الجزيرة نت 28-2-2024 كمال اوزتورك- هل القرن الافريقي هو ساحة الصّراع الجديدة في العالم.
  • هو مصطلح صاغه الكاتب الأميركي أوليفر هنري، للإشارة إلى هندوراس في كتابه «الملفوف والملوك» الذي صدر عام 1904 ويُطلق هذا المصطلح، للانتقاص من دولة غير مستقرة سياسياً أو اقتصادياً. ويُستخدم هذا المصطلح غالباً بطريقة ساخرة لوصف حكومات بعض البلدان في أميركا الوسطى ومنطقة بحر الكاريبي، وأحيانا يُشير إلى دول في أميركا الجنوبية وآسيا وأفريقيا.

 

زر الذهاب إلى الأعلى