الدقة في التعامل مع الحقائق جوهر طرح المؤرخ يا د. عبد الله على إبراهيم

د. صديق الزيلعي

 

البروف عبد الله على إبراهيم مؤرخ مرموق وقامة من قامات بلادنا الثقافية السامقة. استخدم الدكتور عبد الله تلك المنزلة السامية لطرح أفكار وآراء تتعارض مع مكانته الاكاديمية. فكل من يتابع كتاباته الأخيرة يلاحظ تبريره المتكرر لمواقف قيادة الجيش الحالية. وفي نفس الوقت يهاجم تقدم، صباح مساء. وهو ينتهز قدراته اللغوية ومخزونه من المعلومات التاريخية لتقديم انصاف حقائق، ثم يضيف ما يرمي اليه من هدف. وقد سبق لي نقاش معه حول اعتماده رواية النقابي على محمد بشير عن تأسيس الحركة النقابية السودانية، متجاهلا الروايات الأخرى المتعددة والأكثر وثوقا من رواية على بشير.

نشر الدكتور مقالا بعنوان: الحزب الشيوعي السوداني والطريق البرلماني للاشتراكية. وهذا المقال هو امتداد لطرح عبد الله المتكرر عن الحزب الشيوعي تحت قيادة ” استاذنا عبد الخالق محجوب”. ولكنه لا يتوقف عند ذلك ويقدم نقده المستمر والمتواصل لمواقف الحزب الشيوعي وقياداته التي أعقبت عبد الخالق. وعبقرية عبد الخالق، لا تحتاج لإقحامه في معظم المقالات، فشعبنا يعرف قدراته العظيمة.

جاء في المقال:

” من الحقائق المغيبة عن الحزب الشيوعي أنه تبنى الطريق البرلماني للاشتراكية في مؤتمر الثالث (1956) بألمعية وحصافة لا تزال تنظر قلماً حاذقاً يسبر غور ذلك “النشوز” عما شاع إلى يومنا أن للاشتراكية طريق واحد هو ثورة البروليتاريا. ونشر الحزب ذلك الولاء للديمقراطية الليبرالية في كتاب “طريق السودان للسلم والاشتراكية” الذي تلاشى بالزمن وبقيت لمح منه في كتاب ” آفاق جديدة” لأستاذنا عبد الخالق محجوب الذي صدر في أعقاب المؤتمر في 1956.”

 

كل من يقرأ هذا المقال يخرج بانطباع، غير حقيقي، عن هذه القضية. ولقد تعرض موضوع الانتقال السلمي للاشتراكية لنقاشات كثيرة ومكثفة، وسط الماركسيين. وبعضهم أرجعها لكتابات ماركس الأولي أو كما يسميه البعض ماركس الشاب أو ماركس الإنساني. وآخرون حددوا بدايتها مع سياسة ” الاشتراكية في بلد واحد” والحديث عن ” المباراة السلمية بين النظامين العالميين”. كما ربط آخرون الطرح بكتابات قرامشي خاصة كراسات السجن، وقالوا انها تشكل النواة الأولي للشيوعية الاوربية. التي ظهرت في سبعينات القرن الماضي، كتيار يجمع بعض الأحزاب الشيوعية في غرب أوربا. وهذا نقاش طويل وممتد، مثل كل المسائل النظرية، المتعلقة بالماركسية.

 

بدايات طرح الطريق البرلماني (السلمي) للانتقال للاشتراكية، بوضوح وبشكل برنامجي عام، كانت في اربعينات القرن الماضي. عندما صدرت توجيهات من ستالين للأحزاب الشيوعية حول استخدام الديمقراطية البرجوازية. وقد اضافتها عدد من الأحزاب لبرامجها، لكن لارتباطنا بالاستعمار البريطاني، وتوجيهات الكومنتيرن لدور الأحزاب الشيوعية في الدول الاستعمارية، لنشر النظرية في المستعمرات التابعة لها. فما هو موقف الحزب الشيوعي البريطاني، وكان من أول الأحزاب التي طرحتها بوضوح، ومنذ وقت مبكر.

 

The programme of the British Communist Party adopted in 1935 stated:

“… the building of a mass Communist Party within an all-inclusive united working class front is the sole path to the advance of the working class struggle, and … the victory of working class revolution in Britain and the establishment of the workers’ dictatorship on the basis of Soviet power for the building of socialism”.

And in the book: The British Road to Socialism written in 1947, we read:

“… it is possible to see how the people will move towards Socialism without further revolution, without the dictatorship of the proletariat”.

توضح هذه المقتطفات ان المسألة طرحت منذ أوقات مبكرة. وستكون لاحقا أحد أهم أسباب الخلاف النظري بين الحزبين السوفيتي والصيني. وصارت القيادة الصينية تصف القيادة السوفيتية بالتحريفية. وكثيرا ما استخدمت، بعض التيارات الماركسية، النهاية المأساوية لنظام سلفادور الليندي في شيلي، لنقد استحالة تحقيق الاشتراكية عن الطريق البرلماني.

 

عبقرية عبد الخالق لا تحتاج لانتزاع موقف من اطاره التاريخي الصحيح. ولكنها تظهر، بوضوح وجلاء، في هذا المقتطف، من نفس كتاب ” آفاق جديدة”، كتب عبد الخالق:

” جرت في الفترة الأخيرة دراسات واسعة، وتوجت باستكمال الاشتراكية العلمية التي وضعها ماركس وانجلز. وفي الفترة الثانية التي أعقبت التطور السلمي للرأسمالية وتحولها للاحتكار والاستعمار، جرت دراسات قام بها لينين وتوصل الي العهد الجديد من تطور الثورة البروليتارية. وفي هذا السبيل استبعد لينين القيم التي وضعها ماركس ولم تعد ملائمة للفترة الجديدة. والفترة الراهنة لا تقل في وزنها عن الفترتين السابقتين. ومن الطبيعي ان تذهب الدراسات والبحوث الى حدود بعيدة لإعادة النظر في معظم القيم الاشتراكية بهدف الاحتفاظ بكل ما هو ملائم واستبعاد كل ما أصبح ميتا لا يتمشى مع الظروف الجديدة”

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى