الدّين والظمأ الأنطولوجي-
الأفق والمعنى أو تحرير الدّين من إكراهات التّاريخ والموروث
أحمد يعقوب
مدخل:
يحارُ المرء من أي مدخل يلجُ لقراءة كتاب الدّين والظّمأ الأنطولوجي للدكتور عبدالجبّار الرّفاعي؛ الكتاب الذي صدر في العام 2016عن مكتبة الفكر الجديد،وصدرت نسخة العام 2024 عن مؤسسة هنداوي. وسبب الحيرة أن كتاب ” الدّين والظمأ الانطولوجي” كتاب مفتوح على كل المصارع ؛ مصارع الذات والتجربة الشخصية وآفاق الإيمان والمعنى . وأنا لا أطمح في خُطاطتي هذه ؛سوى أن أقرأ ما قرأته؛ أعني تأويل ما أعتبره قراءاتي للنّص ؛ إذ لاقراءة تتطابق مع قراءة بل وحتى مع النّص المُراد قراءاته؛ فالمغايرة عملٌ معرفي ومطلوبٌ في قراءة النّصوص، خاصة نص الدّين والظمأ الأنطولوجي؛ لأنه ليس نصّ في الدين والوجود فقط بل هو أيضاً سيرة ذاتية وأشواقٌ روحية وتأملات مكتوبة بعمق معرفي وتحاور موضوعات فلسفية لم تحسمها الفلسفة حتى الآن. ولم تحسمه الفلسفة ليس لقصورها ولكنها معنية بالسؤال أكثر من الإجابة؛ وهكذا يضعنا د. الرفاعي في مواجهة أسئلتنا الذاتية في أفق المعنى الديني ويحاورنا ( كذات) من ذات الحقل .
لقد ظللت على الدوام أعتمد مبدأ أن مُراد أي قراءة لنصٍ ما؛ هي في الأساس قائمةٌ على النّبش والبحث عن ما يسكت عنه النص وما يحجبه، إنه يحجب ما يمثّل بِنيته وقدرته على إنتاج المعنى والمعرفة وهو مسكونٌ في الآن بهاجس تاريخيته وإنتاج معناه؛ فالنّص هو خطابٌ يمتلك تكتيكاته وتقنياته ، إنه سلسلة من الموضوعات الذاتية والاجتماعية …الخ يروم في النهاية إنتاج سلطته وتثبيتها للاعتراف بها.
الذّات تحرّرها وتحريرها:
يُريد عبدالجبار الرفاعي بالذّات هُنا؛ الأنا الخاصة، التي هي قوام الحياة الباطنية للكائن البشري؛ وهي بطبيعتها عميقة ويصعب سبْر غورها ، وحياة الكائن البشري لا تتحقق ولا تتواجد بالمعنى الكلّي إلا حين تشرع هذه الأنا الخاصة في التّعبير بحرية؛ إنها ذات اكتسبت حُريتها وعرِفت نفسها ؛ وحرّرت نفسها من براثن العبودية؛ وبالأخص عبودية العقل التي تُفضي إلى عبودية الرّوح والضّمير. يريد الرفاعي تحرير الذّات من صوت الجماعة التي تقمع ظهور الأنا الخاصة ؛ حيث تعمل الجماعة التي تتمظهر في شكل كيانات سياسية وجماعات قومية ومذاهب دينية على؛ تنميط الذّات عبر صهرها في المجموع ومحو كل ما يشي بخصوصيتها ؛ بمعنىً آخر تعمل الجماعة على هدم الذات كليّاً وهو هدمٌ للكيان البشري وتفتيته داخل المجموع ؛ وتصبح حينها الذّات دون سِمات ودون خصوصية.
فقدان خصوصية الذّات يتبدّى ويتمظهر جلياً في ما نعايشه ؛ عبر الجماعات الدينية والأحزاب السياسية ووسائل إعلامها؛ وخطاباتها الغارقة في التنويم الجماعي للشعوب وتقديم (الأعلاف) الايدلوجية من الشعارات والهتافات. إنّها عملية مُصممة لتغييب الوعي وتوريط المجتمعات في ماهو خارج ذواتهم ؛ فالجماعة بخطاباتها هذه تنشئُ سُلطتها وهيمنتها . وإذا شئنا القول بلغة هايدغر فيمكننا النظر إلى حال المرء في الحياة اليومية، حيث يخضع كل واحدٍ من الذّوات إلى سُلطة الآخر؛ وهذا ما يسمى تخلّي الإنسان عن ذاته ووقوعه تحت دكتاتورية (الهَم) ؛حيث أن الاهتمام بالفروقات التي تميّز الإنسان عن الآخرين قد تجعل منه موضوعا ًمعزولاً، ولكن الإنسان نفسه والآخرون أنفسهم هم كائنات مُحايدة بشكل ماهوي حيث تذوب شخصياتهم في غمامة غير مُدركة تتيح (للهَم) بأن يفرض سلطته على الجميع : “بحيث نصير نفكر مثلما يفكر الآخرون وننفصل عن مجموع البشر مثلما ينفصلون”. وتتجلى سيطرة (الهم) عبر الدعاية والبروباغاندا والإشهار التي تؤدي كلها إلى شُح الوجود وكفافه؛ حيث يعطي الفضاء العمومي كل قرار وكل حكم بشكل مسبق ، دون أي قدرة على الاختبار أو التمحيص.وهذه هي ورطة الذّات.
الدعوة للإنهمام بالذات تتجلى في فكر ارسطو حين قال للمارة: “إنكم تهتمون بثرواتكم وبسمعتكم وأمجادكم، لكنكم لا تهتمون بفضائلكم وأرواحكم” . في كتابه ( الإنهمام بالذات) لميشيل فوكو بالرغم من أنه كتابٌ لتحليل نصوص كتاب الأحلام لارتميدور ويقارب في تحليلاته للنّص قضايا الجنسانية والسلطة؛ ولكنه يتحدث بصوت عالي حين ينتقل من موضوع السلطة إلى موضوع الانهمام بالذّات التي تم اخضاعها نتيجة لخطابات الجماعة وبالتالي أصبحت منضوية داخل أفق الطاعة. أو كما يقول فرويد أننا مشغولون بالخارج أكثر من اشتغالنا بالداخل.
يقودنا مفهوم الذات وتحررها إلى قدرتها على امتلاك الخيارات فيما يخص الايمان. فالايمان خيارٌ فردي وكذا الالحاد. يهرب الايمان حين يكون التلقين هو أساس البناء المعرفي الذي يقوم عليه، حين لايُترك مجالٌ للفهم بل يمارس الاكراه بغرض ايصال الذات إلى الايمان وحينها يفر المرء من الايمان ؛ فالايمان حالة الروح في سموها يشعر بها المرء داخلياً ولا تخضع للقياسات الحسية ولا تتحقق إلا عبر الذات وكدحها إذاً فهي ليست جماعية. وفي ذلك يقول سورين كيركجارد أن : الإيمان هو أهم مهمة يحققها الإنسان، لأنه على أسس الإيمان فقط يمكن للفرد إمتلاك فرصة لأن يكون هو ذاته الحقيقية. الذات هي العمل الحياتي الذي يحكمه الإله إلى الأبد” .بالتالي، يخضع الفرد لعبء المسؤولية الكبيرة لاختياراته/ها الوجودية التي تعلّق إما الخلاص أو اللعن الأبدي. القلق أو الفزع هو الحس الداخلي لهذه المسؤولية الرهيبة عندما يقف الفرد على أعتاب اختيار وجودي خطير. القلق شعور من جانبين: من جانب أول هو عبء الفزع من اختيار الأبدية، ومن الجانب الآخر هو بهجة الحرية في اختيار المرء ذاته. يحدث الاختيار في لحظة، وهي اللحظة التي يتقاطع فيها الزمن والأبدية، الفرد يخلق من اختيار مؤقت ذاتاً سيحكم عليها بالأبدية.
مايعنيه الظمأ الانطولوجي أو الحوجة للإيمان:
لقد كرّس فرويد جزءاً مهماً من عمله في تحليل مصادر المعتقد الديني ، إوالياته ونتائجه، وحتى مستقبله . فإذا ما وجد في خطابه بعد علموي، والذي يمكن أن يبدو خطاباً اختزاليا، فإنه ثمة أيضا فائدة استثنائية للتمثلات التي تنتج عنه، المؤثرات التي ترافقه وبصورة أعم، المخزون الغريزي الذي تتم تعبئته فيه . إنه يطور معركة نضالية بهدف معارضة رؤية “علمية ” للعالم التي سترتبط بالتحليل النفسي، برؤية دينية . فعبر تحليلاته، وأحيانا انتقاداته اللاذعة، ينبثق مفهوم مركزي، هو مفهوم الـ” حاجة إلى الإيمان “، الذي يرافق ويُضايق الذات التي سيتوجب عليها أن تجد لها منافذ مختلفة، منفذ العلم الذي هو أجدر بالتفضيل لديه، إلا أنه ليس الأسهل . لأن العلم لا يقدم نفسه كمجرد بديل، ثم إن الإله العقل له متطلبات أخرى مثل إله الأديان.
عندما تفتقر حياة الانسان إلى ما يُثري وجوده ويمنحه وقود الحياة، آن يكون المعنى لوجوده غير مُدرك وغير موجود ؛ حين يكون هشّاً يفتقر إلى الطاقة الداخلية التي تحركه وتشبع حاجته لما تمتلئ به كينونته؛ آنها يكون العطش الانطولوجي قد بلغ مبلغه. لكن؛ ولأن كل إنسان يستمدّ فهمه من ذاته ووجوده الخاص واحكامه ونظرته؛ فإن مفهوم الإيمان وما يعنيه لا يُفهم إلا داخل هذا الأفق ( أفق الايمان) وكذلك حياة الروح تُفهم داخل فضاء الروح. ولكأن الرفاعي يريد إعادة الذات إلى الذّات؛ حتى تفهم كينونتها وما ينبغي أن تكون عليه وتمثله.
ويمكن رؤية ذلك حين نربط المسألة بالتصوف؛ففي خطاطته حول التصوف، يشير الرفاعي إلى ما أسماه بتصوف الاستعباد؛ ويعني بتصوف الاستعباد تلك الممارسات التي أفضت إلى عبودية غير عبودية الله . إنها عبودية شيوخ الطرق حين يتحولون لاصنام تُعبد من قبل مريديهم. تحوّل التصوف والذي هو في جزء من آفاقه تجربة دينية تدخلها الذّات من أجل تحررها إلى عملية تفتيت ذات المريد وانطفاء شعلته الروحية ؛ يحدث ذلك حين يتربّى المريد على التّلقين والرضوخ والطّاعة العمياء للشيوخ لدرجة أن يذوب فيهم ، إنها طريقة استعباد حين ينكّل بالجسد ويتم التضحية بالغرائز . وتكون التكايا والزوايا هي المكان الذي تفقد فيه الذات نفسها ويغيب اكتشاف المعنى وأفقه بدل أن تكون الذات تمتلك نفسها . وهي ظاهرة تتواجد في كل المذاهب والديانات والثقافات ؛ بل يمكن القول أن الأحزاب السياسية الطائفية تمارسه في أبشع صوره.
من الناحية الأخرى ، يريد الرفاعي فيما يريد توظيف رؤية جلال الدين الرومي لله؛ وطريقته في تفسير القرآن، إذ يبدو أننا في أمس الحوجة اليوم إلى رؤية الرومي حول الله والانسان والعالم واشراقاته الثاقبة في استنطاق القرآن وآياته. ولأن ميراث الرومي ينشد احترام الكائن البشري وترّسخ النّزعة الانسانية في الدين ، إذ يغرس الرومي ما يسميه المؤلف لاهوت الايمان، لاهوت الشفقة لاهوت الجمال والفرح.
ويدلف الرفاعي إلى رؤيته للتصوف ؛ حين يريده أن يكون تصوف الحرية؛ الذي يعني به التصوف المعرفي أو التصوف الفلسفي. وهو تصوف خارج عن الأنساق المغلقة الحرفية لقراءة النصوص الدينية، وهو تصوف خارج انتاجات مقولات المتكلمين الاعتقادية وأصول الفقه ومقولات الفرق الكلامية. أن تصوّف الحرية يمنح المسلم أفقاً رحباً في التاويل ، وإنتاج قراءةتواكب المتغيرات ومستجدات الحياة وهو تصوف منفتح على فضاء للإلهام الروحي والاخلاقي والجمالي.
يُفهم من ذلك أن التصوف الفلسفي والمعرفي يكرّس حرية التفكير والتعبير؛ لأنه يبلور مفهوماً للفرد يقوم على الحق في تعدد الطّرق الى الله. تقول النظرية المعرفية العقلية والذوقية عند ابن عربي والذي يسميه في كتابه الفتوحات المكية علم النظرة أو الضربة أو الرمية، تقوم على خصائص وآليات محددة وأهم ما يميزها هو كونها تعتمد على الإدراك المباشر للحقيقة في جوهرها، وإذا كانت الحقيقة هي موضوعها اﻷول واﻷخير فهي متماهية معه ومتطابقة تطابقًا ذاتيًا مع موضوعها، فالعارف يتحقق عبر هذه المعرفة من طبيعة الحقيقة في ذاتها.حيث تستند آليات نظريته المعرفية إلى جملة من الوظائف: وظيفة القلب ووظيفة الخيال والتي تتضمن بدورها عين البصيرة والعقل الجزئي وعين اليقين ونور اليقين.
الدين والأيدلوجيا:
في كتابه هذا يستعرض الرفاعي مواقف د. علي شريعتي . ويمكن القول أن د. علي شريعتي يموضع نفسه في اتجاهات الفكر الديني الحديث في إيران داخل مدرسة (تيار الهوية الذاتية) ، وهو تيار يقوده أحمد فرديد ، حيث يصوغ رؤيته استناداً إلى علم الأسماء الإلهية لابن عربي وخليط من فلسفة هيدغر والفليلوجيا بالاضافة للسانيات، وقد لاتكون موضعة علي شريعتي في هذه المدرسة كاملة؛ لكن هناك آثار تكاد تكون واضحة لمفاهيم هذا التيار الذي يدعو إلى العودة للذاتية والاصالة والهُوية الحضارية. وإذا شئنا المقاربة نستطيع القول أن هذا التيار لا ينفكّ يبجّل الماضي ويثني على التاريخ وينزّه مسيرة الأديان في المجتمعات البشرية ولكأن الدين متعالي حيث لا يلامس المحايثة أو بالأحرى هو محايثٌ في تعاليه.
في نقده لعلي شريعتي يشير الرفاعي إلى قيام شريعتي باستخدام الايدلوجيا لتفسيره الثوري للدين؛ إذ يعتقد شريعتي أنه” لابد من الايدلوجيا” ويبرر ذلك بأن الايدلوجيا تستوعب أهم أسباب النهضة والتطور. والايدلوجيا هنا هي نظام لتوليد المعنى الذي يؤدي بدوره لانتاج وعي زائف بالواقع ؛ إنها هنا تحتكر نظام توليد المعنى فاذا بالواقع يكون أسيرٌ لرؤيتها أو الأحرى إنها تنتج واقعٌ متخيّل لا وجود له.
وتكمن خطورة هذه الايدلوجيا في أنها تعيق التفكير؛ إذ أن منطقها التبسيطي يذهب إلى أن إثارة الأسئلة حول موضوع ما يعني على الدوام وجود جواب جاهز ، وهو جواب متكلس ومحنط ونهائي في إطره المغلقة، مما يعني تعطيل التفكير خاصة حين تغلق الاسئلة المفتوحة باجابات نهائية. وفي هذا الاطار فان الايدلوجيا تسعى إلى التنميط والتدجين.
نرى في علي شريعتي قلقه من التفكير الفلسفي لانه يقوض الايدلوجيا ؛ إذ أن الاسئلة الكبرى تظل إجاباتها مفتوحة على الدّوام. ولأنه يمتلك الاجابات ( المعلبة) فهو ضد التفكير الفلسفي؛ ولأن التفكير الفلسفي يقوّض هذه الأيدلوجيا ويهشم أسوار العقل المغلق، مما يفككّ اليقينيات ويفتح الأفق على عدة إجابات ومعنى . والملاحظ أن تيارات الاسلام السياسي ومفكريه يشتركون في هذا الموقف المناهض للتفكير الفلسفي الذي هو متوارث منذ الغزالي وسيد قطب.
يريد عبد الجبار الرفاعي في مرافعاته إلى ضرورة أن ندرك البعد الانطولوجي للدين والذي من شأنه أن يضع الدّين في حقل خاص . إنها عملية تسعى لتحرير الدين من الشوائب الايدلوجية التي علقت به والتي وظفتها تيارات الاسلام السياسي. ولأن الاسلام في وقت ما كان محكوماً بالابعاد الروحية والاخلاقية والرمزية؛ وما حدث بعدها هو ترحيل وظيفة الدين ونقله من مجاله الانطولوجي الرمزي الروحي كما يقول المؤلف إلى مجال سياسي صراعي واذا به أهدرت قيمته الانطولوجية أيدلوجياً. ومأزق المسلمين اليوم حسب رؤية المؤلف يكمن في ضمور الحياة الروحية والاخلاقية ، الأمر الذي أفضى إلى تصدع المجتمعات وانهيار الدول، حيث تحول الدين إلى كائنٌ يلتهم كل الاشياء بما فيها الانسان ، وحيث قيمة الاشياء أصبحت أكبر من الانسان فاذا به يعيش الانحطاط على مستوى الذات وهو مآلٌ قادنا إليه الإسلام السياسي.
هل من سبيل لتحرير الدّين/ القرآن من إكراهات التاريخ والموروث؟
إنّه سؤالٌ في التجديد؛ وأعني به تجديد الفكر الديني، ويمثل الرفاعي أحد أؤلئك الذين يسعون باجتهاد في هذا المجال. ينطلق د. الرفاعي في أفكاره حول التجديد الديني من أن مصير الفكر الديني في مجتمعاتنا أسيرٌ للماضي إذ لا نعثر على مراجعات نقدية جادة في أدبيات الاسلاميين، حيث أن النقد يصنف صاحبه في خانة أنه معادٍ للمجد التاريخي للامة الاسلامية . ويقول أنه مالم يتم اصلاح التربية والتعليم فلن نعثر على البداية الصحيحة لأي تجديد؛ ويشير إلى الفوبيا من العلوم الحديثة والفلسفة والعلوم الانسانية، وحيث أن آفاق الدراسات الاسلامية مغلقة في الجامعات ومراكز البحوث وأن السبيل لتجديد الفكر الديني يبدأ بالانخراط في مخاضات المعارف البشرية لأن المعرفة الدينية هي إحدى تجليات المعرفة البشرية.
والسؤال أعلاه سؤالٌ مفتوح وبالتالي فان إجاباته تظل مفتوحة. لقد سجلتْ المعرفة الإنسانيّة في الفترات الاخيرة تحوّلات جذريّة في مستويات المنهج والمجال والأدوات والنتائج والتطبيق، مع تحوّلات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وثقافية شهدتها المجتمعات . وكان لهذا أثر عميق في تقبّل الدين وفهمه عبّرت عنه بتفاوت واسع حركات دينيّة أو ضد الدين ، وحيث قامت فروع علميّة حديثة تخصّصت في دراسة الدين من حيث هو ظاهرة ثقافيّة أو نفسيّة أو سوسيولوجيّة، مثل علم الاجتماع الديني والأنثروبولوجيا الدينيّة وعلم تاريخ الأديان وعلم الأديان المقارن…..الخ.
ووفقاً للمعطيات أعلاه ؛ بدا أنّ حركة اصلاح وتجديد الدين قامت منذ قرون خلت وقد تأسّست على فهم عميق لعلوم العصر وفلسفاته، وتحوّلات المجتمعات الحديثة وتطلّعاتها. وما أصبح يعرف بفلسفة الدين ونجد جذور هذه الفلسفة المتعلقة بالدين في فكر ارسطو. ثم فيما يتعلق بالدين الاسلامي الذي نحدد بصدده، من محاولات ابن رشد وبن خلدون وبن سيناء والفرق الاسلامية المتعددة الاشاعرة والمعتزلة والاسماعلية…الخ . وبدا أن مفكري وفلاسفة العصر الحديث الغربيين أكثر اهتماماً بفلسفة الدين كهيجل وكانط وشيلينغ .
ولايمكن فصل جهود ومسارات الاصلاح الديني للاسلام الذي انطلق منذ أواخر القرن التاسع عشر عن وجهة المد الغربي بحضارته وإستعماره الذي هيمن على العالم الاسلامي وقتها، إذ أنه من الملاحظ أن جهود جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده، كانت تحاول اصلاح الإسلام ومواريثه الاجتهادية الفقهية أو علم الكلام والمنطق الروائي للسنة النبوية، بل وصل الأمر إلى حد تجديد قراءة النص الديني وتأويله بأدوات العصر المتاحة آنذاك.
مصطلح الإصلاح الديني ، هو مصطلح حمّال أوجه. فقد تكون فكرة الاصلاح إزالة ما علق بالدين من شوائب وتشوهات وهي عملية تهدف إلى إعادة الناس إلى الدين الصحيح منزّهاً عما لحقه من انحراف في الفهم وما تراكم من أخطاء الممارسة التي غدت في منزلة الدين نفسه أو أصبحت ضمن أطر القداسة الدينية. وقد يقود المصطلح نفسه إلى فكرة أن الدين في ذاته يحتاج لإصلاح في بنية نصوصه أو وإعادة قراءة نصوصه وفقاً للمتغيرات وما تمر به المجتمعات من تحولات وتبدلاّت..الخ. وهذه الاخيرة ووجهت بعنف من الجماعات الدينية التي وصمت هذا الفعل بأنه عملية لازاحة الدين من المجال الذي ينبغي أن يكون متواجداً فيه. ولأن نهاية هذا الطريق هو تفريغ النصوص الدينية من محتواها الدلالي وتحويلها إلى مادة هلامية يمكن تشكيلها وفق القوالب الفكرية، وتفسيرها تفسيراً يتنوع بتنوع الأزمنة والأمكنة والثقافات، وبذلك سنخرج بدلاً من المذاهب الإسلامية بإسلامات مذهبية فهذا إسلام ليبرالي وإسلام يساري وربما إسلام الحداثة وإسلام ما بعد الحداثة، ويتحول النص الشرعي المحكم إلى نص أدبي ذوقي له معاني بعدد قراءه.(1) .
يمكن الاشارة هنا في هذا السياق الى عمل العديد من المفكرين حول تجديد الفكر الديني مثل نصر حامد ابو زيد ود. حسن حنفي وأدونيس وجورج طرابيشي و محمد أركون والذي أسهم بما عرف بالاسلاميات التطبيقية و الذي يقصد بها استخدام وسائل وأدوات العلوم الحديثة في السيميائيات والابستمولوجيا والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والدراسات السيكلوجية والتاريخية (الفيولوجية) في دراسة النصوص الإسلامية بدءاً بالقرآن والسنة مروراً بالمدونات الفقهية.
في مقالتها حول التّاريخ والقرآن : علاقة جدلية، تدرس الكاتبة انجيليكا نويفرت(2) علاقة القرآن بالتاريخ في الدراسات الغربية المعاصرة، سواء علاقة النصّ بتاريخه أو صِلَة النصّ بالتاريخ الذي يرويه، وفي هذا السياق تثير الكثير من القضايا المهمّة على ساحة الدرس الاستشراقي؛ مثل قضية تاريخ القرآن في السردية الإسلامية ومدى موثوقيته، وقضية لغة القرآن وبنيته . وفي السياق تدرس الكاتبة علاقة النص القراني بالنص المروي والنص القرآني هو الأبرز في الدرس الاستشراقي من حيث دراسة سياقاته التاريخية أو تاريخ جمعه وتدوينه أو صلة النّص بالتاريخ؛ وقد ذهبت الكاتبة إلى أن النص الديني هونص سلطوي وأن القصص في القرآن تدور حول الانسان ؛ فكان بحثها في النص القرآني محاولة لرصد ظهور سلطة النص الديني وبيان مدى صدق هذا النص وقدرته على فرض سلطته وامتداد هذه السلطة(3).
وإذا شئنا مقاربة منطلقات الدراسة أعلاه؛ فيمكننا القول أن عملية تحرير القرآن من التاريخ( نشأته وتمثلاته) قد تكون صعبة إن لم تكن مستحيلة ؛ ومردّ ذلك أن الخطاب القرآنيّ لم يكن خاليًا مِن أثر للأديان والحضارات السَّابقة لظهور الدِّين الإسلاميّ؛ لما للدّين من طابع عالمي كما أنّ التأثر بالحضارات أو الثّقافات أو حتى الأديان السّابقة مسألة مفهومة في السيّاق. وأتساءل أي تحرير نريده وبأي كيفيات وهو سؤال مفتوح وقد تتعدد اجاباته.
أقول أن التجديد الديني مطلوب بشدة وأشير في ذلك للمراجعات النقدية لأشتغالات الأنثروبولوجي الشهير كليفورد غيرتز حول تعريف مصطلح الدين والدلالات المترتبة عليه ثقافياً وأجتماعياً، حيث يمكن القول أن الدين لا يبقى في نسخته الأولى أبداً حيث أن الاشكال والتطورات والظروف الاجتماعية تكون حاسمة ، بل ويتعرض إلى عمليات تجديد وتغير تطال بنيته الجوهرية.
ختاماً: يمثل كتاب الدين والظمأ الانطولوجي أحد الخطابات المهمة في فهم الذات والتجربة الايمانية وتتمثل أهميته الكبرى في أسئلته المفتوحة وحيث لا يقدم اجابات جاهزة ونهائية بل يفتح العقل على أفق البحث عن المعنى والتي تثير عقل الباحث وتقوده في متفرعات ومتفرقات معرفية وفلسفية شتّى.
مراجع:
- د. عبدالجبار الرفاعي – الدّين والظمأ الأنطولوجي مكتبة الفكر الجديد2016.
- محمد اركون، العلمنة والدين/ الإسلام، المسيحية، الغرب، سلسلة بحوث.
- مارتن هايدغر – الفلسفة الهوية والذات – ترجمة محمد مزيان – مراجعة علي سبيلا كلمة للنشر والتوزيع ومنشورات ضفاف الطبعة الاولى 2015
هوامش:
- عبد الوهاب بن ناصر الطريري – مدونة عبدالوهاب الطريري.
- أنجيليكا نويفرت أستاذ الدراسات السامية والعربية في جامعة برلين الحرة، تُعد من أشهر الباحثين الألمان والأوروبيين المعاصرين في الدراسات القرآنية والإسلامية.درست الدراسات السامية والعربية والفيلولوجي في جامعات برلين وميونيخ وطهران، عملت كأستاذ ومحاضر في عدد من الجامعات، مثل: برلين وميونيخ وبامبرغ، كما عملت كأستاذة زائرة في بعض الجامعات مثل: جامعة عمان بالأردن، وجامعة عين شمس بالقاهرة.
- القرآن والتاريخ: علاقة جدليّة – تأمّلات حول تاريخ القرآن والتاريخ في القرآن، ترجمة: إسلام أحمد، منشورات مركز تفسير للدراسات القرآنيّة، الرياض، 2021م