في اقتفاء أثر خراب المدن : الصورة الشاعرية للطغاة- 4

د. مجتبي سعيد عرمان

د. مجتبي سعيد عرمان 

[email protected]

مما لا جدال فيه أن الشعراء بحسهم المُرهف هم أكثر الناس قدرة على الإمساك بناصية اللغة لرسم صورة حية عن الطاغية الذي كتم علي أنفاس الشعوب، و خرب دنياهم، واشبعهم جوعا وتقتيلا. كما أن الأشعار بما تمتلكه من قانون التجاوز( Deviation ) شاعريا، وعدم الالتزام بقواعد النحو تعطينا صورة مُدهشة، و درامية عن الطاغية الذي فعل الافاعيل بالشعوب واغرقها في بحور الدم والدموع.

(1)

يُعد الشاعر، والناقد ، والأستاذ اليمني عبد الله البردوني أحد فرسان القلم في خارطة الإبداع الشعري في الوطن العربي. الذي لم يمنعه المرض منذ الطفولة المبكرة من الإنتماء إلي الفقراء والمساكين فعلا وليس قولا. كان مُدركا- بحسه الشاعري المُرهف – للخطر المحُدق بالاوطان أو وطنه اليمن على وجه التحديد، وكيف أن الطغاة سيحلون نهارات الأوطان إلي ليل حالك وذلك بفعل الاستبداد والعسف. ولأن لا مكانة للمُراجعة ولا المُحاسبة في عُرف الأنظمة التي يتحكم في رقاب العباد حاكما يمثل ظل الله الأرض ويحدد وقع الخطى للناس تنمويا، واقتصاديا، واجتماعيا ولكن لا أثر لكل هذا في واقع المجتمعات كما بينت شواهد التجربة الإنسانية ، والتجربة السودانية على وجه الخصوص. أو كما هو الحال في التجربة النميرية التي بدأت بشعارات الاشتراكية الجوفاء وقرارات التأميم الغير مدروسة وانتهت بتنصيب ” الريس” إماما علي فقراء السودانيين الذين بُترت وقُطعت أيديهم زورا وبهتانا بأسم قوانين الشريعة الكذوبة بينما بهاء الدين ورهطه من أصحاب الصولجان يسرحون ويمرحون في جهاز الدولة ناشرين رائحة الفساد التي تزكم الانوف ولم تُقطع أيديهم كما فُعل بالمساكين من جماهير شعبنا يومها.

(2)

سيطر الطغاة على أجساد البشر اولا، وذلك من خلال اجهزة القمع المختلفة، ومن ثم كانت السيطرة على عقولهم من خلال اجهزة الإعلام الطنان ذو البُعد الواحد الذي يُسبح بأسم دولة الحزب الواحد صباحا ومساء ويتحدث عن كل شيء بينما يغُض الطرف عن أوجاع البشر المهانين، والوطن المنتهب والمُغتصب من قبل العسكرتاريا وبطانتها الفسادة التي تتداعت على جُثة الوطن الهامدة كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. تبادل الطغاة على حكم الأوطان وكأن حواء لم تلد غيرهم، تماما كما وصفهم شاعرنا الفحل عبد البردوني حينما وصف حال اليمن الذي لم يعد سعيدا تحت حكم الطغاة قائلا :

بلادي مِن يدَيْ طاغٍ

إلى أطْغى إلى أجفى

 

ومِن سجنٍ إلى سجنٍ

ومِن منفىً إلى منفي

وهي الناقة العجفا

علي الرغم من أن البردوني كفيف البصر ولكن قلبه مُبصر لاوجاع البشر الذين عملت الأنظمة القمعية علي سحق كرامتهم وعاشوا في ليل دامس يكان لا ينتهي ولكن كان شديد الإيمان بقدرات الشعوب علي الثورة علي الطغاة الذين لا محالة ذاهبون إلي الجحيم، إذ يقول في نفس القصيدة :

بلادي في كهوف الموت لا تفنى ولا تُشفى

تنقر في القبور الخُرس

عن ميلادها الأصفى

وعن وعد ربيعي

وراء عيونها أغفى

صحيح ان الطاغية ذهب في نهاية المطاف ولكنه خلف من وراءه تركة مُثقلة بالانقسام الطبقي الحاد حيث هناك البشر الذي يملكون – وهم الأقلية – ومن الناحية الأخرى هناك الأكثرية التي لا تملك شروي نقير. ليت الأمر توقف عند هنا ولكن الطغاة تركوا ورائهم مجموعات قبلية تحمل السلاح ذات امتدادات إقليمية احالت حياة الشعب إلي جحيم دائم من المعاناة وخلفت جراحات إجتماعية لا تبرأ في المستقبل القريب . بل الادهي والأمر انها اقعدت بالامة من اللحاق بركب التطور التقني، ومشاريع الطاقة النظيفة،وتحيق النمو المطرد، والحفاظ على كرامة الإنسان واتاحت الفرصة له للمشاركة في الشأن العام بعيدا عن كل وصاية مع الحفاظ على الحقوق الاقتصادية، والثقافية، و النهوض المجتمعي فى كافة جوانبه، واحترام حقوق كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي يأتي علي رأسها الحق في الحياة. ذهب الطغاة تُطاردهم لعنات الضحايا بعد أن زرعوا المسغبة، والفقر في سماوات البلاد التي كانت صافية تُزينها نجيمات الصبح وكأنها عروسة تُزف إلي عريسها في يوم خريفي غائم والرزاز يُخصب الأرض التي تغطت بالتعب من ظلم الإنسان لأخيه وغياب العدالة الاجتماعية.

لنا عودة

زر الذهاب إلى الأعلى