تاريخ الجنسانية – إرادة العرفان

جنسانية فوكو - السلطة والقمع

 

ميشيل فوكو

أحمد يعقوب

أريد البدءْ بالقول أن ثراء نصٍّ ما؛ يُمكن قياسه بالكتابات المُغايرة والمتباينة لنفس النّص. إذ ذاك ؛ نرى تمدد خطابات النص في حقول مختلفة  وبالمجمل قراءات متعددة. لعل العودة إلى رولان بارت و ” موت المؤلف”. إنه ليس موتاً مجازياً فلا يمكن قتل المؤلف حتى ” مجازاً ” أبداً فهو بطريقة ما يموضع ذاته في نصوصه ولكن سعى ” بارت” إلى إستعادة مكان القارئ داخل النّص. فنحن في القراءة محكومون بموقعنا الجغرافي وما تشكّل فيها من منظومة للثقافة والفكر، وهو ما يفسر اختلاف القراءات والتّعاطي مع النّص نفسه.

يتجدد طموح المرء مرة أخرى عندما يعاود القراءة أو الكتابة عن فوكو ؛ وتاريخ الجنسانية تبدّى لي كتاريخ للسلطة واشكال القمع. وما الجنس الا موضوعاً واحداً من ضمن موضوعات عدة عالجها فوكو مستخدماً ” السلطة ” كاطار منهجي  يقرأ من خلالها قضايا كالسياسة والمعرفة والعيادة والسجن والجنون ..الخ. سأكون متنكراً اذا قلت أن قراءاتي للجنسانية جعلتني افهم الجنس في المجتمعات الغربية التي ناقشها فوكو في عمله. يجد المرء نفسه مهتماً بتشكل خطابات السلطة حول الجنس وهي نقطة يؤكد عليها فوكو في تعدد الخطابات حول الجنس. هناك دراسات ديموغرافية، ودراسات طبية، ودراسات نفسية، وقوانين جنائية، وقوانين مدرسية، وما إلى ذلك. لقد نشأت هذه الخطابات المختلفة لأسباب مختلفة، لذا سيكون من الصعب أن نعزوها كلها إلى “سبب” واحد. وتريد الفرضية القمعية ربط التغير في الخطاب المتعلق بالجنس مع حاجة البرجوازية الصاعدة إلى زيادة الإنتاجية، إلا أن تعدد الخطابات يناقض هذا الجانب من تلك الفرضية.

وإلى حد بعيد فإن التحكم في الناس (السلطة) يمكن تحقيقة بمجرد مراقبتهم فحسب، لذا فعلى سبيل المثال صفوف المقاعد المتدرجة في إستاد ما لاتسهل الرؤية فقط للمشاهدين ولكنها تمكن الحراس وكاميرات المراقبة أيضا من القيام بمسح شامل للمتفرجين. إن نظاماً مثالياً من المراقبة قد يمكن حارساً واحداً فقط من رؤية كل شيئ (هي حالة يقترب منها , كما يمكننا أن نقول، نموذج جيريمي بنتام “البانوبتيكون”) (1)ولكن بما أن ذلك غير ممكن عادة فهناك حاجة “لتناوب” المراقبين بشكل هيراركي حيث تمرر بيانات المراقبين من المستويات السفلى إلى المستويات العليا.

سمة مميزة للسلطة الحديثة (التحكم الإنضباطي) وإهتمامها بما لم يفعله الناس (عدم التقيد بالقانون) وهو مايمكن أن يكون فشل شخص ما في الوصول للمعايير المطلوبة. هذا الإهتمام يجسد الهدف الرئيسي من النظام الرقابي الحديث: تقويم السلوك المنحرف، الهدف ليس الإنتقام (كما كان الحال مع التعذيب في النظام العقابي القديم) وإنما الإصلاح، وبالطبع هنا يعني العيش وفقاً لمعايير وقواعد المجتمع. التاديب من خلال فرض قواعد دقيقة (“التطبيع”) مختلف تماما عن النظام الأقدم للمعاقبة القضائية والذي يحكم فقط على كل فعل حسب مطابقته أو مخالفته للقانون ولا يقول إذا ماكان هؤلاء المحكومين “طبيعيين” أم غير “طبيعيين”، تلك الفكرة عن التطبيع متغلغلة في مجتمعنا: على سبيل المثال المعايير الوطنية للبرامج التعليمية، للممارسات الطبية، للعمليات الصناعية والمنتجات.

لماذا هذه المُرافعة المختصرة؟. لان نصوص ” فوكو” تتعالق وتتفرّق في حقول معرفية شتّى – فمن الاركيولوجيا إلى العيادة والسجن ومن نظام الخطاب إلى الكلمات والاشياء . وبالطبع المعرفة ونظامها والسلطة والتاريخانية وعلم النفس والسياسة. نجح  فوكو بطريقة ما في تحريك أسئلة الأكاديميا الغربية، نحو دور القوة في صناعة وتحديد معايير التاريخ والقانون، والتجرّد الإنساني، عاد إلى محاولة صناعة تحرير الفرد من السلطة، فخلق ميزاناً عبر دراسة قرنين في أوروبا، وظواهره الاجتماعية والسلوكية. فالبتالي سيجد الباحث والمختص ضالته في ما كتب فوكو.

وتأسيساً على النقطة أعلاه؛ التي تقول باشتغاله على حقول معرفية عدة ، أهملت فيما سبق. فلابد من خلفية فكرية مختصرة عن فوكو. إلتحق فوكو بالإيكول دي نورمال سوبيور  وهي نقطة الإنطلاق التقليدية لكل الفلاسفة الفرنسيين الكبار، في عام 1946 حينما كانت الوجودية الفينومينولوجية في ذروتها، حضر محاضرات لميرلوبوندي, وهيدجر الذي كان مهما له  بشكل خاص، كما كان هيجل وماركس أهتمامين رئيسين لفوكو. عرف الأول “هيجل” من خلال شروح أعماله التي قدمها جان هيبوليت فيما عرف ماركس من خلال التوسير الذي قدم قراءة بنيوية له، أثر  كلا  الأستاذين بقوة   على فوكو في  مرحلة “الإيكول نورمال” لذلك  لم يكن مفاجئاً أن تكون أعمال فوكو المبكرة (مقدمته الطويلة لكتاب “الحلم والوجود ” للنفساني الهيدجري لودفيج بنسفانجر. والأمراض العقلية والشخصية: كتاب مختصر في المرض النفسي) قد كتبا تحت تأثير وطأة الوجودية والماركسية بالتتابع، وهما ماتحول عنه بشكل حاسم بعد فترة ليست ببعيد(2) .

ثلاثة عوامل أخرى كانت أكثر أهمية وإيجابية بالنسبة لـ ميشل فوكو اليافع. الأول كان التراث الفرنسي في تاريخ وفلسفة العلم، ممثلة  بأعمال جورج كانجيلهام, أحد الرموز القوية والمؤثرة في المؤسسة  الجامعية الفرنسية، إذ قدمت كتاباته في تاريخ وفلسفة البيولوجيا، نموذجاً للكثير مما سيقوم به فوكو بعد ذلك في تاريخ العلوم الإنسانية. أشرف كانجيلهام على أطروحة فوكو للدكتوراة عن “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” وظل أحد أهم المؤيدين والمناصرين لـ فوكو طوال مسيرته، كان  منظور كانجيلهام لتاريخ العلم (وهو منظور طوره من كتابات غاستون باشلار) خير عون لفوكو إذ أمده بحس قوي كوني  بالقطيعات في تاريخ العلم، وفوق هذا أمده بفهم”عقلاني” للدور التاريخي للمفاهيم. هاتان القدرتان جعلتهما   متحررين من الوعي الفينومينولوجي المتعالي.(3)

        تاريخ الجّنسْ أم الجنسانيّة؟

تشير كلمة جنس (Sex) إلى التقسيم البيولوجي بين الأنثى والذكر، أما الجنسانية (Gender) فتحيل إلى مفهوم النوع الاجتماعي أو الأدوار والسلوكيات المحددة اجتماعيا لكل من المرأة والرجل ولا علاقة لها بالاختلافات العضوية، أي الصورة التي ينظر بها المجتمع للمرأة والرجل والخصائص المتعلقة بالنساء والرجال التي تتشكل اجتماعيا وثقافيا.

يبدو فوكو مهموماً بالمعطيات الثقافية والاجتماعية التي تشكّل المفهوم . يفهمها كبداية مع بزوغ عصر التنوير والمذهب العلمي / التجريبي وهي نقطة جد مهمة حيث يؤرخ لها فوكو باعتبارها لحظة توظيف المعرفة لترسيخ سلطة القوة وتبدأ من الطب النفسي ومن خلال عدد من التقنيات يرى فوكو أنها كان لها أكبر الأثر في تحقيق التعريف الحديث للجنسانية كما نفهمها الآن. ويسميها فوكو « تقنيات القوة»، وهو مصطلح يشي بقدر لا بأس به من تأثير مارتن هايدجر على فوكو.

ويمثل مفهوم “الجسد” في فكر فوكو قطب الرحى، فهو يحمل دلالة كيفية العيش وأسلوب الحياة، ويختزل تعابير الحياة التي ترتبط بوظائفه الأساسية: من جهة باعتباره آلة أو محرك أو حركة، ومن جهة أخرى باعتباره يمثل الوظائف العضوية للتوالد وللألم، تقاس فعالية التقنيات الحديثة للسلطة بمدى قدرتها على تطويع الجسد وترويض مناطقه ووظائفه.

ورغم أنه لا يُعرَّف « تقنيات القوة» تحديدًا، إلا أنه يمكن أن نفترض، طبقًا لما طوره هايدجر حول ذلك المصطلح، أنه يقصد بها التوجهات أو الأطر العقلانية، التي تمكِّن الفرد من مضاعفة وترسيخ هيمنته على الطبيعة بشكل آلي، وبالتتابع هيمنته على الآخرين. وهذه الآلية تصبح غائية في حد ذاتها. مع بدايات القرن السابع عشر، تجلّت هذه التقنيات، في ثلاثة مظاهر رئيسية، مرتبطة بأفكار التنوير، وتتلخص أولًا في نشوء الطب النفسي، وما نتج عنه من محاولات عنونة الاضطرابات النفسية/ الجنسية، بالإضافة لتطوّر مفهوم الهيستريا بوصفه مدخلًا لفهم جنسانية المرأة. ثانيًا: ظهور فكرة المناهج التعليمية الحديثة، وما ارتبط بها من نمو حالة الهلع حول موضوع جنسانية الأطفال وكيفية التحكم فيها. وثالثًا: تمازج الاقتصاد مع دراسات السكان (علم الديموجرافيا)، وما تبعه من تطور سياسات السكان والإنجاب، والاجراءات التي اتخذتها الدولة في التحكم في تعداد سكانها وتوزيعهم الحضري–الريفي.(4) .

تتمركز فكرة فوكو  إلى أن الأشكال المعرفية الحديثة والمتنوعة عن الجنس (“علوم متعددة عن الجنسانية” تتضمن التحليل النفسي)  ترتبط حميميا  ببنية السلطة في المجتمع الحديث وبالتالي فهي مرشح أساسي للتحليل الجينالوجي.(5)نشر  الجزء الأول من هذا المشروع   عام  1976 وقصد منه  أن يكون مقدمة لسلسلة من الدراسات لجوانب معينة من الجنسانية الحديثة (الأطفال، النساء، “المنحرفين”، السكان وغيرهم .) فقد حدد الخطوط العريضة لمشروع التاريخ كله، شارحا  فيه وجهة النظر الأساسية والطرق التي سيتم استخدامها.

في حساب ميشيل فوكو، فإن الرقابة الحديثة المفروضة على الجنس توازي الرقابة والتحكم في الجريمة من خلال جعل الجنس (كالجريمة) موضوع للتخصصات العلمية المزعومة والتي تقوم بتوفير المعرفة والسيطرة أيضاً على موضوعاتها في وقت واحد. لذلك فإنه يصبح من الواضح أن هناك بعداً آخر للسلطة المرتبطة بعلوم الجنس فالأمر لايقتصر على تحكم يمارس من خلال معرفة الآخرين بالأفراد ولكن هناك أيضاً تحكم من خلال معرفة الأفراد لأنفسهم. الأفراد يستدمجون المعايير المنصوص عليها من قبل علوم الجنس كمعايير داخلية ويقومون بمراقبة أنفسهم كمحاولة منهم للتطابق مع تلك المعايير, ولذلك فهم ليسوا فقط مراقبين بوصفهم موضوعات للرقابة/التأديب، بل أيضا بوصفهم ذوات خاضعة لتدقيق وتشكيل ذاتي.

إرادة العرفان ( المعرفة)  ام تأريخ السّلطة؟ :

يمكن إعتبار الكتاب الاول  المعنْون ” تاريخ الجنسانية – إرادة العرفان ” والذي نحن بصدده( قراءة السلطة وفرضية القمع) يمكن إعتباره بالمقدمات النظرية أو المقاربات المنهجية  التي اختطها ” فوكو ” وتشتغل كاطار نظري ومنهجي للكتابة عن الموضوع ” الجنسانية ” والمتشعبة بطبيعة الحال في الحقول ( التاريخية والطب النفسي والقوة والمعرفة…الخ). الكتاب الاول في هذه السلسلة معنيٌّ بدراسة القمع الذي تعرضت له الجنسانية حيث يناقش فوكو في كتابه الفرضية القمعية لخطاب الجنسانية في المجتمعات ويطرح الكتاب اسئلة على شاكلة : هل تتبُع ما نراه قمع جنساني منذ نمو البرجوازية في القرن ال17 إلى الآن هي دارسة دقيقة تاريخيًا؟هل بالفعل يتم التعبير عن السلطة في مجتمعنا أساسيًا بشكل تراجعي؟ هل خطاب الجنسانية في عصرنا الحديث هو إنشقاق عن هذا القمع التاريخي للجنسانية ام انها جزء من هذا التاريخ؟. والعنونة الثانية في الكتاب حول الفرضية القمعية تتابع وراءها عناوين ( الحث على الخطاب ، تأصيل الشذوذ ‘ علم الجنس ، مركب الجنسانية ، الرهان، المنهج ، الميدان ، التحقيب، واخيراً حق الموت والسلطة في الحياة). أنها تواريخ لما يفترض أنه حديث عن الجنسانية ولكنها بالاحرى دراسة للقمع ولاشكال السلطة ضد تحرر الذات.

يؤرخ ” فوكو” لبداية عصر القمع بالقرن السابع عشر ؛ حيث أن الجنس اصبح مقموعاً  من الظهور في اشكال الخطابات مع استخدام الصمت حياله والمراقبة ولاحقاً العقاب ( فمن الممكن أن يكون قد تم تطهير صارم جداً للمعجم المسموح به. ومن الممكن أن يكون قد تم تقنين خطابة كاملة للتلميح والاستعارة ومن دون شك فقد صُفّت قواعد جديدة  للياقة والحشمة …… وبطريقة أكثر دقة ، تم تعريف أين ومتى ليس من الممكن الكلام عنه؛ في اي وضع؛ وبين أي متخاطبين وداخل اي علاقة اجتماعية وهكذا اقيمت مناطق ان لم يكن للصمت المطلق ؛ فعلى الاقل للحساسية والرصانة) (6).    وغدا الحديث عن الجنس أكثر صعوبة بعد أفول الحقبة الفكتورية (7)  حيث كانت قوانيين المجون أكثر ليونة – لكن وبطريقة أكثر دقة فقد تم وضع قواعد تتعلق بالحشمة والرصانة وداخل العلاقات اقيمت مناطق للصمت المطلق بين الاباء والابناء والاسياد والخدم. لكن فو كو يرى أن خطاب الجنس رغم ظهور اشكال القمع وقتها فهو اصبح موضوعاً كلاميا وتكثّف حضوره وتعددت خطاباته حيث الحثّ على الكلام حوله اكثر واكثر واصرار اجهزة السلطة على الاستماع للكلام عنه وغداة العام 1563الوقت الذي تقرر فيه الاصلاح العام للكنيسة الكاثوليكية لمواجهة البروتستانية تم تسريع وتيرة الاعتراف(8) ومحاولة فرض قواعد دقيقة لفحص الذات من قبل نفسها. يسائل فوكو الأسباب التي، من ناحية دفعت الأروبيين إلى التفكير في أنّ الجنس كان عندهم ولأمد طويل مقموعا، ودفعهم من ناحية أخرى إلى استشعار الحاجة إلى قول الحقيقة حول الجنس واعتبار هذا الواجبَ تحرّرا. أسئلة لها من القيمة ما يجعل الحقيقة حول الجنس تبدو الأكثر حميمية، والأشدّ سرّية عن أجسادنا وعن كياننا، والتي نمرّ عبرها إلى حقيقتنا الشخصيّة، مع كونها تحدّد في آن علاقاتنا الاجتماعية. وخلافا للأفكار السائدة سعى فوكو في كتابه هذا إلى البرهنة على أنّ “التحرير الجنسيّ” ينخرط في الحقيقة ضمن تراث الفكر الغربيّ المسيحيّ.وهكذا يحلّل في النصّ المصاحب فكرة الاعتراف، الأساسية عنده .

يحاجج فوكو وعبر الحقبة الفكتورية بالحرية التي كانت موجودة ” فالممارسات لم تكن تبحث عن التستّر الا في القليل النادر  والكلمات كانت تقال دون تكتم مفرط والاشياء دون افراط في التنكر لقد كانت هناك نوع من الالفة المتساهلة مع المحظور وغير المشروع” (9).  ولتبيان هذا الامر يجب معرفة كيف يرى فوكو السلطة ؛ فهو لا يعني بالسلطة كمجموع مؤسسات وأجهزة يخضع لها المواطن في دولة ما ولا نمط الاخضاع الذي تمارسه ولا يراها كمنظومة عامة للسيطرة يمارسها عنصر أو مجموعة على أخرى ؛ تبدو السلطة في نظر فوكو حول تعددية علاقات القوة المحايثة للميدان الذي يتم فيه ممارستها والمشكلّة لنظامها والانفصامات والتّناقضات في داخلها بالاضافة الى الاستراتيجيات والتي يأخذ رسمها العام في المؤسساتية .

وبطبيعة الحال في نقده لما بعد الحقبة الفكتورية وخطابات الجنس السائدة آنها والتحوّلات التي طرأت على المشهد بعد الحقبة حين غدا الجنس والشذوذ والسادية ..الخ موضوعاً “عيادياً ” داخل اورقة الطب النفسي وحين شُّرعت قوانين على هذا الأساس بالاضافة الى المناهج التعليمية وسيطرة الدين ايضاً على خطاب الجنس مع المحاولة لوضعه في قوالب معينة. يرى فوكو هذا التكالب على الجنس وخطابه محاولة لقمعه ومنعه من الظهور في الفضاء العام.قد أدى الى تكثيف حضوره في كل المجالات.

فها نحن نرى مرتكزات التقنيات الحديثة للسلطة: المراقبة والحراسة وفي نهاية المطاف العقاب.(10) فهي تحث على الإنتاج أكثر من القمع، وبذلك فهي تخضع كلا من القيمة والجسد والمعرفة لإمرتها، تخلق السلطة معايير السلوك من خلال المراقبة وفرض الالتزامات وتطوير العادات. فهي تحدد السوي والمرضي. كما تهدف السلطة إلى تطويع الأجساد بحيث لا تملك هذه الأخيرة الخروج عن إنتاج معايير السلوك. فالجسد هو تلك المنطقة (ليس بالمعنى التوبوغرافي أو الطوبوس*) التي تقوى على التعبير عن الحياة، وإليها تتجه التقنيات الحديثة للسلطة من أجل إخراسها وإجبارها على الصمت. تحتاج السلطة، من أجل تثبيت نفسها، وتكريس سيطرتها إلى مراقبة، ليس الأشكال الثقافية للفكر، بل أيضا أشكال تعبيرات الجسد.

فرضية القمع:

الفرضية القمعية تنص على أن العلاقة بين السلطة والجنس هي علاقة قمع: فالسلطة تُمارس لإبقاء الجنس طي الكتمان، وعدم التحدث عنه، وعدم التفكير فيه. في هذا الفصل، يحاول فوكو إقناعنا بالعكس: فقد تم ممارسة السلطة لإدخال الجنس بشكل متزايد في الخطاب، وفي تركيز أوسع وأكثر تحليلية.

لا ينكر فوكو بعض الحقائق الأساسية التي تلهم الفرضية القمعية. ويوافق على أنه كان هناك جهد أقوى للسيطرة على الجنس وأن الجنس أصبح بشكل متزايد أمرًا مخجلًا. وهو يحدد الموقف الحر والسهل تجاه الجنس في العصور الوسطى وعصر النهضة، حيث كان هناك خجل أقل في التفكير في الجنس كموضوع للمتعة. كما أنه يوافق على أن هذا الموقف الحر والسهل تم قمعه، وأنه كان نتيجة للسيطرة على القوة البرجوازية الصاعدة.

يختلف فوكو مع الفرضية القمعية فيما يتعلق بكيفية وسبب قمع هذه الحياة الجنسية المفتوحة. ترى الفرضية القمعية فقط إسكات شكل سابق من الخطاب. يرى فوكو أن هذا الإسكات هو نتيجة ضرورية لتزايد “إرادة المعرفة” فيما يتعلق بالجنس. أي أنه مع ازدياد أهمية معرفة الجنس، أصبحت الطرق التي يمكننا التحدث بها عن الجنس أكثر صرامة.

حجة فوكو الرئيسية هي أنه بدلًا من أن يكون الحديث عن الجنس محظورًا، فقد زاد منذ القرن السابع عشر. ومع ذلك، يُظهر فوكو أيضًا أن الطريقة التي يتحدث بها الناس عن الجنس قد تغيرت أيضًا. إن الفكاهة الصاخبة والاعترافات الصريحة في عصر النهضة ليس لها أي شيء مشترك مع الدراسات التحليلية والوعي المسيطر عليه في القرن الثامن عشر وما بعده. لقد اتخذت كلمة “الجنس” معنى مختلفا تماما في القرون الثلاثة الماضية.

وهذا التغيير في المعنى هو نتيجة مباشرة للعلاقة المتغيرة بين السلطة والجنس. في القرون الثلاثة الماضية، أصبح الجنس أكثر فأكثر موضوعا للمعرفة. وعلى هذا النحو، فقد خضع لنوع من التدقيق النزيه المستخدم في العلوم. يتوقف الجنس عن كونه شيئًا يمكن أن نضحك عليه ونمارسه بشغف متهور، ويصبح شيئًا يجب علينا التعامل معه بهدوء وتحكم. لم يعد مجالًا للسذج والعاطفة، بل أصبح مجالًا لعالم الاجتماع والفقيه.

 

هوامش:

  • سيرة ميشيل فوكو (Michel Foucault) الذاتية، وخلفيته الفكرية، ونقد فوكو للعقل التاريخي، وحول أعماله الرئيسية، ترجمة: يوسف الصمعان، والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة).
  • سيرة ميشيل فوكو (Michel Foucault) الذاتية، وخلفيته الفكرية، ونقد فوكو للعقل التاريخي، وحول أعماله الرئيسية، ترجمة: يوسف الصمعان، والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة).
  • نفس المصدر.
  • كيف تساعدنا قراءة فوكو على فهم تاريخ الجنسانية- اسماعيل فايد – موقع مدى 12 ديسمبر 2017
  • سيرة ميشيل فوكو (Michel Foucault) الذاتية، وخلفيته الفكرية، ونقد فوكو للعقل التاريخي، وحول أعماله الرئيسية، ترجمة: يوسف الصمعان، والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة).

 

  • ص (15) فوكو- تاريخ الجنسانية – ارادة العرفان – ترجمة محمد هشام افريقيا الشرق 2004 – المغرب
  • نسبة للملكة فكتوريا .
  • المقصود به الاعتراف الكنسي .
  • ص (5) فوكو- تاريخ الجنسانية – ارادة العرفان – ترجمة محمد هشام افريقيا الشرق 2004 – المغرب
  • فوكو وميكروفيزياء السلطة – معزوز عبدالعالي – مجلة حكمة قسم الفلسفة 2016

*طوبوس  Topos: كلمة فرنسية تعني موقع أو موضع. أنظر قاموس المعاني

مصادر:

  • Gutting, Gary, 1989, Michel Foucault’s Archaeology of Scientific Reason, Cambridge: Cambridge University Press.
  • ––– (ed.), 2005, The Cambridge Companion to Foucault, Cambridge: Cambridge University Press, second edition.
  • Han, Béatrice, 2002, Foucault’s Critical Project, Stanford: Stanford University Press.
  • Hoy, David (ed.), 1986, Foucault: a Critical Reader, Oxford: Blackwell.
  • Koopman, Colin, 2013 Genealogy as Critique: Foucault and the Problems of Modernity, Stanford University Press.
  • Macey, David, 1994, The Lives of Michel Foucault, New York: Pantheon.
  • May, Todd, 2006, Philosophy of Foucault, Toronto: McGill-Queens University Press.
  • McNay, Lois, 1994, Foucault: a Critical Introduction, Cambridge: Continuum.
  • Oksala, Johanna, 2005, Foucault on Freedom. Cambridge University Press.
  • Rajchman, John, 1985 Michel Foucault and the Freedom of Philosophy, New York: Columbia University Press.

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى