الموسيقى في المكان
عناب علمان
الموسيقى في المكان
في تقرير شخصي عن الموسيقى و الحب في زمن الحرب لا تعطينا شادن صورة بانورامية عن الموسيقى في المكان وحسب، بل تكوِّنها و تهديها لنا و قد اتمّت عدتها الكاملة، لأننا في لحظة حقيقة واحدة في المطلق يخيّل إلينا – ونحن صادقون في ذلك – أننا سمعناها في طفولتنا و مراهقتنا و شبابنا و كهولتنا الآتية بعد حين ، سمعناها في المكان، دومًا في المكان، حيث تتخذ الموسيقى، موسيقى شادن، حيزًا يتشعّب و يتغلغل و ينتشر ببطء، صابغة بذلك كل ما تصادفه أو تصدمه في طريقها. كنا نريد نحن أيضًا و تحديدًا في زمن الحرب ان نبقى راسين في الحب بوصفه الشيء الوحيد الذي لم يدمره الإنسان بعد، لأن كل الأشياء انتهت ، كل الحلول و الموروثات تزعزعت، فكانت الموسيقى و عثرنا على أغنية وسط الخراب، أغنية تراثية ابقتنا راسين في الحب رغم الموت ، وهذه ليست تعمية نُغلّف بها الموسيقى و نحصرها، رغم أن اساس كل الأشياء بما في ذلك الموسيقى تبدأ و تترعرع و تنتهي في الحب لكنه الأصل في البدايات و الأشياء، وعند الحَكَامة شادن قَردود، زهرة مداين الغرب، يتعلّق الأمر دومًا بالحب، حب الناس، البلد و التراب، حب السلام و المعايشة و صهر الإختلافات الثقافيّة، حب البادية و العُقُّب و الفرقان و السعيّة، و حب المريود أو المريودة في أغنية تراثية تتناقلها الأجيال بخفّة، جيلًا بعد جيل، مكوّنة بذلك ترابط متين و هويّات مشتركة تخلق وجود زاخرٌ يمكن للجميع العيش فيه بسلام و تقبُّل الآخر و احترام ثقافته و تقديرها .
نعرف مسبقًا لحظتين من الحقيقة ، و “على افتراض أنّ الحقيقة تستطيع أن تتحدث فلن يأتي ذلك الصوت إلا من فم امرأة” واتخيّلُها دوماً امرأة تُغنّي و اعرّفها إلى الأبد بأنها شادن، الَّتي غنّت الحقيقة على الملأ، و سمعها الجميع بأجسادهم أولًا ، رقصوا بها فرحًا و طربًا ، بكوا بها و ناشدوا الآخرين بها، و استبدل الجسد العادي هنا بجسد المُستَمِع إلى شادن الذي يبدو أنّه دومًا يُعاني عبرَ الذِكرى و الترقُّب انفصالًا جذريًا عن الحبيب في غربته و فقده، ألمه و توقه الشديد لأن يدرء عنه حربًا أو ينال سلامًا وأمنٍ . و تمَّ للتوّ طرح سؤال متسامٍ : “اي لوسيفر هذا الذي خلق في الوقت عينه الحب والموت؟” لا تجاوب شادن لكن تتغنى كالعادة ” الدفق فوق التراب كلا ولا بنخم” و تعقب : “يعني نحنا ما بنقدر نرجع الناس الماتو” و تواصل في فيديو لطيف و مؤثر ” أخير نقُعدو في لُبّا، في لُبّا يعني جوة السودان ده، السودان كبير السودان لينا بلم و يا صقر الجديان انطونا الخير و دايرين السلام “. تأخذنا الصورة الإعتيادية لشادن إلى كردفان و دارفور، البادية فيهن تحديدًا تأخذنا لإنسان تلك المناطق البسيط في جوهره، حبّه لباديته و رعيّته، زراعته و سعيّته ومطالبه : الإستقرار و الأمان، تظهر في الصريف مثلًا بين البنيّات و هي وسطهن زهرة مداين الغرب في بساطة لم أرى مثلها من قبل، جمالٌ منطقه الهَلَعْ تغني كما لو ان الغناء – وهو كذلك – الشئ الوحيد الصحيح في جملة الأشياء المحيطة بها، أصح من الكلام و الخطابات السياسية و الجوديات و المؤتمرات المنعقدة لحل الأزمات و فضّ النزاعات وكل ذلك عبر اغنية تراثية خاصة بها، أقول خاصة رغم أنها ليست ملكها لأنها عندما تؤديها يبدو و كأنها تعالج الأخطاء الكامنة فيها و لأنها لا توجهها إلى جمهور أو قبيلة بعينها بل إلى العالم أجمع : تروي شادن قصة يمكن للجميع دون استثناء فهمها و المشاركة فيها و التعاطف معها و حتى الوقوع في حبها ، تنشد بها السلام لناس قطَّعت الحروب نياط قلوبهم و ما زالت تفعل . تُنمِّي لغة سلام من تحت لقب الحكَّامة الذي من أبرز أدواره إدارة الحروب في ” الحكامات مرقن كلن وروني يا ناس انا شن عيبا” في “هاجر بعيد في الصيّ، هموما اتلفح، دواى الجروح بالكي”، ” ما تبقى عودا جاف النار بتاكل الني، شيل يا الصبر يا خي ما حاسي ليه بالبي” في “سبّارة ماشي داري، سارح بي باري دي الغربة شالت حالي” و ” الْبِل دارن صابن نشقن دار أم بادر و تبريت شدّن حولا لِحسن ألّمي الفوقا “. هذه لغة السلام والحب التي تنسجها شادن على نوْل موسيقي لا وجود له خارج ذهن المستمع، لغة الفريق البسيطة ذات الدلالة الرمزية فقط لو يسمعها الجميع و يتبعها و ينفذها، هذه اللغة الحميمية الغير مفهومة كليَّا بالنسبة لنا و التي نبحث هنا و هناك عن معنى كلماتها، نحن الذين نزعم أننا آتون من المدينة الكبيرة حيث لا سماء بعد الأفق بل فقط الأنوار و اضواء السيارات و الصخب وما إلى ذلك نجذْل و نطرب لها من سيدة كانت الجزء و الكل، تكلمت باللهجات كلها، بت البلد والمدينة لبست الزمام والعاج و الفركة و الجينز و القمصان و الأحذية الرياضية الحديثة، سارت في الصريف و بنفس الخطوات في المدينة الكبيرة، كانت هنا و ايضًا هناك، الموسيقى في المكان.
لحظتين من الحقيقة
لحظة رأيت على التلفاز بالصدفة نعي امرأة – أراها لأول مرة – بملامح أصيلة تقليدية و تسريحة شعر تقليدية وثياب تقليدية، لماذا بقيت عندها مطوَّلًا ؟ ولحظة حكيت لصديقة عن أول مرة سمعتها فيها – امرأة ماتت قبل أن أعرفها – و في محاولات فاشلة متتالية لشرح الشعور المعين تجاه الصوت قالت لي صديقتي بطريقتها الحلوة في الكلام، بجملة بسيطة : ” مممم فهمت ، زي كأنك بتحبي زول لأول مرة في حياتك” و قلت : “ريدكي بشتني بي رياح أم هودي ” لأن شادن تحقق لنا شادن حلم المشي داخل الأغنية التي نحب و تذهب بنا إلى أراضٍ لم نطأها من قبل و تُشعرنا بالجذْل عندما تغني “كان في مرادي نتلاقى نار الشوق دي حرّاقة يا بنيّة الدنيا فرّاقة بعيد مني القدر ساقا” .. و بسذاجة مستمع معجب و واقع في حب أغنية يبدو هذا المقطع كأنه لي.
بعد سنواتٍ طويلة من الآن، ربما يسأل شخص ما لغرض فيلم وثائقي أو كتاب عن حكّامة لم تقم بإدارة ولا حتى حرب واحدة نادت بالسلام وماتت بسبب الحرب؟
نعم كانت هنا : شادن محمد حسين أو شادن قَردُود فنّانة شابَّة، دافعت عن السلام و العدالة، اشتهرت بلقب الحكَّامة الذي عادةً ما يُطلق على النساء الرائدات في دارفور و كردفان المعروفات بشِعرهنّ و غنائهنّ و لديهن سلطة واسعة على الرجال في تلك المجتمعات هدفت لتغيير النهج المميت لدور الحكامة، اهتمت بتنمية لغة السلام أعادت افضل العادات و التقاليد القديمه بثوب حديث. توفيت في حرب الخامس عشر من أبريل لكنها ما زالت هنا في كل مكان تغنّي و تذهب بنا إلى فضاءات شاسعة، و لكل مناسبة أغنية، نبع لا ينضب البتَّة، من وادٍ في كردفان يرسل لي صديق مقطع تصدح فيه : سبّارة ماشي داري، سارح بي باري، بشرب لبن حواري دي الغربة شالت حالي. تهجو أيضا : دارك خراب في الصيّ سويّ العديل يا صِبيّ، لبس الخلق و الزي خرب القلوب بالكي، راس فاضي من الدين شايلين سلاح حايمين تكتل شمال ويمين. و تمدح كذلك : جاكو طالب العدالة، بعزة وكرامة قطعتو لسانا و دحرتو كلامها، الشهيد بمقاما فوق الجنة بُكانا يا الحرقتو حشانا الدِنيا ما هامانا . و ببساطة تسأل عبر منشور في فيسبوك عن إذا ما كن بعض بنيات الهوسة سيساعدنها في اغنية تعود لتراثهن ، وعلى الملأ بمكان عام تطلب لشعبها في الفرقان : يا ناس انحنا دايرين الخير ، انطونا السلام ل نيالا، الضعين كادوقلي ، شلنقو ، فوق الدبيبات … إلخ. و فرديًا في خُلوة حبيب تهذي : حلاتة الضامرة زي الصيد مناي الايد تلاقي الايد متين يا رب يجينا العيد و اشوف السمحة ست الريد ؟ و في مناسبة احتفالية : أمشو براحة بشوق سوقو عروسكو بذوق الجسيم حرير السوق.. و غير ذلك كثير لأن مع شادن لدينا كومة أغاني بقصص تكفينا إلى الأبد.