المسألة الوطنية في السّودان ومأزق بناء دولة ما بعد الإستعمار

 

 

عبدالله بشير

بعد سبعة عقود من الحكم الوطني في السودان، تظل دومًا القضايا الوطنية الكبرى التي لم تحسم بعد مهدداً خطيراً لإستقرار البلاد. وهي مدة طويلة في عمر البلاد والشقاق الوطني، خرج المستعمر وترك السودان بلدًا شاسعًا ومتنوع في إنسانه وبيئته؛ كغيرنا من البلدان التي استعمرت ثم نالت استقلالها؛ فإن الإحتفاء بامتلاك قرارنا وحريتنا من الدخلاء الذين داسوا على شرف الوطن، أمراً يستحق الشعور بالفخر والتمجيد، وتلك مسألةً فوق الخلافات الوطنية مهما كانت شدة الخصومة. التاريخ يصنعه الأبطال دائمًا؛ كما الشجعان من الرجال والنساء الذين صنعوا إستقلال البلاد؛ فعلوا ذلك بهمة عالية ووطنية خالصة، من أجل مستقبل مشرق لبلدهم وشعبهم. ولكن  بعد خروج المستعمر، وإقامة الحكم الوطني، لم تسير الأمور كما ينبغي لها أن تكون؛ فظهرت الخلافات بين أبناء الوطن حول ما يمكن تسميته  “بالمسألة الوطنية”، الخلاف بين أبناء الوطن حول قضايا الحكم والإدارة وتوزيع الثروة والسلطة والهوية وغيرها من القضايا، التى إستمر فيها الخلاف إلى يوم الناس هذا.

عندما نتحدث عن معضلات الدولة الوطنية، لا يمكن أن تجاوز الطريقة التي تمت بها عملية إستقلال البلاد و الكيفية التي تحقق بها في تعقيد المسألة الوطنية، حيث إفتقدت الإجماع المطلوب لإقامة نظام حكم قومي مستقر بخلوها من الروابط التكوينة التي تجمع السودانين، وكان ذلك البذرة الأساسية للشقاق الوطني. مع أن الأوطان تبنى فوق كتف الإختلاف. لكن الخلاف في مسألة الشرعية تحولت إلى خصومة وطنية  طويلة ظلت دومًا مصدر الشقاق الداخلي؛ فبعد عامين فقط من الإستقلال، أطل علينا الإستبداد السياسي؛ بشرعية الأمر الواقع، عندما سلم رئيس الوزراء المدني السلطة للجيش بعد أن فشل في إحتواء الخلافات السياسية بين النخب. ومنذ ذلك التاريخ دخلت البلاد في دوامة دولة ما بعد الإستعمار في أفريقيا “الجمهوريات التوارثية والتوارثية المحدثة”، والتي وصفها جان فرانسوا بيار في كتابه “The state in Africa the politics of the belly” أي الاستبداد السياسي القائم على شرعية الأمر الوقع، المرتبطة بمؤسسات الدولة وسيادتها، دون أن يكون هنالك رضا أو قبول لتلك السلطة من الشعب، والحكم عبر “الشللية السياسية أو الشللية العرقية”. وفي السودان طبعًا فوق ذلك أخذ  الاستبداد طابعًا مزدوجًا، بالإضافة إلى سيطرة النخبة السياسية المركزية على مفاصل الدولة، كان للصراع الأيديولوجي هو الآخر نصيب وافر من فترة  الحكم الوطني، وقاد إلى تعميق الخلافات بين الجماعات الوطنية، بتكريس الحكم ومؤسسات الدولة وإستغلالها وتخريبها بأيدي جماعة عرقية أو إيديولوجية معينة أو الإثنان معًا.

أخذت قضية بناء دولة ما بعد الإستعمار ومعضلاتها حيزًا كبيرًا من النقاشات في الأواسط السياسية والاكاديمية، وهناك كتابات لها ثقلها في توسيع المعرفة للتوارثية المحدثة، وإستبداد دولة ما بعد الإستعمار في أفريقيا؛ مثل: سياسية لواءات الحروب ودول أفريقيا لوليام رينو “warlord  politics and African state الجشع والظلم جدول الأعمال الاقتصادية في الحروب الأهلية، لبردال ومالون، Greed and Grievance Economic agendas in civil wars “وتجريم الدولة في أفريقيا لبيار وغيره the criminalsation of the state”؛ تلك الكتابات أثارت جدلاً كثيفاً بحكم أن كتابها من الغرب نفسه الذي أورث الوطنيين في أفريقيا بلدان هشة وضعيفة ومقسمة. ولكن  في نفس الوقت القت الضوء بالفعل على كيفية تحول دولة ما بعد الإستعمار في أفريقيا من الإستبداد الإستعماري إلى الاستبداد الوطني، القائم على الدكتاتوريات العسكرية والحروب الأهلية، وتكوين المليشيات الخاصة أو العرقية، وإحداث ما تم وصفه “بسياسة الفوضى” وهو مفهوم صاغه كل من  “باتريك شابال وجان بسكال دالوز”، وهما يعرفان الجدوى السياسية للفوضى؛ بأنها عملية يسعى من خلالها السياسيون في أفريقيا إلى تعظيم أرباحهم من حالة الإرتباك والشك والفوضى “الاقتصاد السياسي للحروب”، وهو ما يميز معظم نظم الحكم في أفريقيا؛ لكن الكاتب ديفيد فرانسيس المختص في قضايا السلم والصراع في أفريقيا، إنتقد ذلك التعميم المخل الذي لا يعكس الواقع في أغلب بلاد أفريقيا، لأن هذه النظرية “الجدوى السياسية للفوضى”، حين تطبق على كثير من بقاع أفريقيا تهمل تأثير الزعماء الأفارقة الأفذاذ ممن تجاوزوا النزعة التوارثية المحدثة إلى إلتزامات تنموية طويلة المدى؛ كجليوس نيريري في تنزانيا، وسيريسته خامه وكويت ماسيره في بوتسوانا، ونلسون مانديلا في جنوب أفريقيا”. وفي العشرين سنة الماضية، أظهرت العديد من البلدان في أفريقيا تبدلاً مشرقًا وتقدمًا ملحوظًا في الديمقراطية، والحكم الرشيد، والتنمية، وخفض معدلات الفقر الجوع الأمراض والأمية، وسجلًا مشجعًا في الوفاء بتعهدات حقوق الإنسان.

إن المسألة الوطنية وقضايا البناء الوطني، تعتبر من القضايا المعقدة؛ فيما يتعلق بالوضع السوداني، لأن الدولة نفسها ناتجة عن علاقات متباينة ومعقدة، بين الدولة والمجتمع، والقضايا التي تشعل الحروب والنزاعات قد لا تكون دائمًا متعلقة كلها بالانقلابات العسكرية والحكومة الدكتاتورية فقط. بل بشبكة معقدة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية الداخلية والخارجية والتحالفات الرسمية وغير الرسمية، والتنازع حول الهوية والدين والموارد، والصراع على سلطة الدولة. وكذلك تأثيرات العوامل الخارجية والصراعات الدولية التي  لعبت ولا زالت تلعب  دورًا كبيرًا  هي الآخرى في تعقيد المسألة الوطنية؛ بالتالي لا يمكن إختزال الفشل الوطني كله في تصرفات بعض الجماعات العرقية أو الشخصيات النشطة في المشهد القومي؛ لأن مؤسسات الدولة تتفاعل مع الحكومات حسب تغيير  الظروف من حولها، و دوائر السلطة لا تتركز كلها في يد الدولة.

في قراءة وضع الدولة الوطنية؛ لسودان ما بعد الإستعمار، بطريقة معرفية وعلمية أكثر وأقعياً في السياق الأفريقي، لا يمكن تجاوز المساهمة الأبرز التي قدمها البروفيسور محمود ممداني، بشأن إستبداد دولة ما بعد الإستعمار، في كتابه البديع، المواطن والرعية: أفريقيا المعاصرة وتراث الكولونيالية المتأخرة citizan and subject” contemporary Africa and the legacy of late colonialism“ . حيث تناول قضية الاستبداد الوطني الذي سماه  “المأزق الأفريقي”، في سعي دولة ما بعد الإستعمار لإصلاح نظم حكم الوطنية، أو الخبرة الأفريقية، حول إصلاح دولة ما بعد الإستقلال. وفي تناوله للخبرة الأفريقية للتعامل مع الأشكال الوطني – سوف استعير لاحقًا عبارة “الخبرة الأفريقية”، في توصيف الحالة السودانية – أشار ممداني  إلى أن تلك الأنظمة قامت على ممارسة المشاركة دون تمثيل، وفي المرحلة الثانية من مسيرة الحكومات الأفريقية الراديكالية، والتي يعبر عنها القذافي وسانكارا ثم راولنجز وموسيفيني، في بدايات حكم كل منهما، أصبح هذا الإصلاح أساس تفكيك السلطة في الدولة المحلية، دونما العمل على دمقرطة السلطة في الدولة المركزية. في الحالة السودانية تمثل حكومة “مايو” التي إستولت على السلطة عبر إنقلاب عسكري، نموذجًا على ذلك؛ وكغيرها من دول أفريقيا ما بعد الإستعمار، قامت الحكومة على نظام  حكم الحزب الواحد (الاتحاد الاشتراكي)، عبر مسيرة حكم إمتدت ستة عشرة عامًا، أحدثت في البلاد دمارًا هائلًا، تقلبت فيها من أقصى اليسار إلى الوسط بالتحالف مع التيارات العروبية، ثم إلى أقصى اليمين بإقامة دولة دينية، وأخيرًا إنتهى بها المطاف بثورة شعبية أطاحت بها من الحكم في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.

اما بالنسبة للمعارضة، يقوُّل البروفيسور ممداني: أن المعارضة الوطنية خلال سنوات الإستبداد الوطني كان يجب توظف خبرتها في معالجة التشظي الإجتماعي منطلقَا لعملها التاريخي، سيكون من الأجدى السعي إلى فهم نقدي لخبرة النزعة الوطنية المناضلة خلال الأعوام الماضية، سنوات الاستبداد الوطني، بدلاً من مجرد الإكتفاء بفضحها، سنجد قوة هذه الخبرة في قدرتها على الربط بين الحضري والريفي على المستوى السياسي، لكن نقطة ضعفها القاتلة تجسدت في فشلها في تجذير هذا الرابط، عبر عملية إصلاح ديمقراطي مستمرة”. في السياق السوداني نلاحظ أن إصلاح الدولة الثنائية الموروثة من العقد الاستعماري في الخبرة الوطنية السودانية في إصلاح دولة ما بعد الإستعمار، نجد أن فترات الحكم الديمقراطي القصيرة تركزت على الصراعات الأيديولوجية بين اليمين واليسار، وعدم الإتفاق على رؤية وطنية شاملة لإدارة مرحلة ما بعد الحكومات الاستبدادية، وكيفية التعامل مع تركتها المثقله، ولم يستمر الأمر طويلاً قبل أن يتحالف أحدهما ضد الآخر مع العسكر للاطاحة بخصمه؛ وعندما يستولى  العسكريون على السلطة عبر الانقلاب، على الفور يتم فرض بنية سلطة قائمة على الأيديولوجيا الخفية التي تقف خلف ذلك الإنقلاب، بالتالي تجد تلك النخبة التي إستولت على مقاليد الحكم، أنها في مواجهة تمرد داخلي يرفض الخضوع للسلطة المركزية، وعلى مدى السبعة عقود الماضية قاد هذا الفشل إلى إفساد الرابطة السياسية بين الدولة المركزية والجماعات المهمشة المناوئة لها، وأصبحت رابطة قائمة على الكراهية، عن طريق الحروبات والنزاعات لأجل اخضاعها. أما محاولة الجيل الثاني من المصلحين السياسين داخل الحكومات العسكرية في الخبرة السودانية، كانوا هم أنفسهم ضحايا تلك الأنظمة المستبدة.

في المأزق الأفريقي  للتعامل مع موروث الدولة الاستعمارية وإصلاح نظم الحكم، ذكر البروفيسور ممداني: أنهم ركزوا على إصلاح المجتمع المدني والسلطة الأهلية، من خلال نقض عنصرية الأول ونقض قبلية الثاني. أما في الخبرة السودانية لقد تم تسيس المجتمع المدني، وتعميق قبلية السلطة الأهلية؛ لأن الشاهد في جميع عمليات الإنتقال التي شهدها السودان،  كان هنالك إصرار على أن يتولى الحكم في الفترة الإنتقالية أشخاص مهنيين “تكنوقراط”. وما أن يتم تشكيل السلطة، حتى يكتشف أن شاغلي تلك المناصب جميعهم ينتمون إلى أحزاب سياسية، وصعدوا إلى تلك المناصب عبر منظمات المجتمع المدني المسيسة تلك. بالتأكيد لم يصمت الخصوم على ذلك! ما قد يؤدي كل مرة إلى وأد عملية الإنتقال برمتها. هذه التجربة فشلت أكثر من مرة في تأمين إنتقال سياسي مقبول في البلاد، وعودة الإستبداد مرةً أخرى.

سوف أتناول واحدة من أكثر المحاولات جديةً طرحت في معالجة المسألة الوطنية في السودان، بعد مؤتمر المائدة المستديرة الذي انعقد بعد ثورة أكتوبر منتصف ستنيات القرن الماضي. وكيف ضعيت النخبة الوطنية فرصة أخرى توفرت لخلق توافقوطني شامل، والإنتهاء من ثنائية الاستبداد التي لازمت العهد الوطني، كنت قد وقفت على عليها بحكم إنتمائي للجماعات المهمشة التي عارضت الحكومات المركزية، ولا أدعي أنها هي الأمثل في وضع حد للشقاق الوطني، وإنما كانت لو أخذت بجدية أكثر، كان من المحتمل أن تشكل مدخلًا جيدًا للتوجه نحو الإستثمار في الحلول الوطنية القائمة على الخبرة الوطنية السودانية.

في عام 2019م، بعد سقوط نظام الإنقاذ بوقت قصير، إلتقت الحركات الثورية المسلحة، وهي حركات سياسية في الأصل، إتخذت الكفاح المسلح سبيلاً، بعد أن فشلت في الحصول على مطالبها السياسية عبر الحوار مع الأنظمة الحاكمة. إلتقت مع قادة  الأحزاب السياسية والجماعات المدنية التي ساهمت هي الآخرى في الإطاحة بنظام الإنقاذ، وكان هدف اللقاء هو التفاهم حول كيفية تأسيس نظام حكم وطني شامل يلم شمل هذا البلد الذي أنهكته الحروب والصراعات والإختلافات، وكانت رؤية الحركات الثورية المسلحة، أن يكون الحل سياسيًا واضحًا، لأن الصراع سياسي في الأصل، قائم على عدم العدالة في توزيع السلطة والثروة والإنفراد بالحكم من النخب المركزية، وضعت الحركات الثورية المسلحة بوضوح على الطاولة مسألة تقسيم السلطة، بين مكونات الثورة، مصحبوبًا برؤيتها لإدارة الفترة الإنتقالية، القائمة على  التوافق مع الجماعات الوطنية لضمان إنتقال آمن وسلس، حيث يتم التركيز في الفترة الأولى من عمر الفترة الإنتقالية على إصلاح مؤسسات الدولة التى طالها الخراب والدمار طوال سنوات الإستبداد، وإنجاز المصالحة الوطنية، ومعالجة القضايا الخلافية الأساسية، وفي المسار الأمني تقوم الحركات الثورية بستليم مقاتليها وأسلحتهم إلى وزارة الدفاع السودانية لإنجاز عملية الترتيبات الأمنية، وصولاً إلى جيش قومي وأحد ووضع حد لحالة تعدد الجيوش في الدولة؛ ثم في المرحلة الثانية لاحقًا يتم  تفكيك الإرث الذي خلفته الأنظمة السابقة، والنظر في مسائل إنجاز العدالة وغيرها من القضايا.

بنت الجماعات المسلحة رؤيتها لحل المسألة الوطنية، من خبرتها الطويلة في الكفاح من أجل المواطنة المتساوية، في بلد متنوع دينيًا وعرقيًا، لذلك تفادت الدخول في الصراع الأيديولوجي الذي خيم على صراعات النخب في العهود السابقة، ودفعت بموجبها الشعوب السودانية ثمناً باهظاً. طرحت الحركات الثورية المسلحة مبدأ إقتسام السلطة دون إستحواذ من فئة معينة، وبدون الإتجاه نحو الإنتقام من الخصوم الوطنين؛ بأن يؤسس الحل عبر إعادة إصلاح الدولة، وذلك بمنح الإستحقاق لجميع أبناء الوطن في مشاركة حكم بلدهم. بعد ذلك اللقاء طلبت القوى السياسية والجماعات المدنية العودة إلى الخرطوم لإجراء بعض المشاورات مع قوى الثورة في الداخل ثم العودة لاحقًا، لتكملة التفاهمات. لكن للأسف ما أن وصلت تلك الجماعات إلى الخرطوم، وكانت وقتها أجواء البلاد ملبدة بغيوم الثورة، شنت تلك الجماعات، حملة سياسية قاسية ضد حركات الكفاح المسلح، حيث تم وصف مطلب الحركات الثورية المسلحة بنصيب في السلطة “بالمحاصصة” وإنها حركات إنتهازية حاربت من أجل السلطة فقط، ولا تملك ايّ مبادئي، ضاربين بعرض الحائط كل النضالات والتضحيات التي قدمتها الحركات المسلحة. بالطبع ذلك أصاب حركات الكفاح المسلح بخيبة أمل كبيرة من طعنة الرفاق، لكنها بلعت تلك المرارة، وتعاملت مع الأمر بمسؤولية. حيث إنتهت تلك التفاهمات بدون التوصل الى نتيجة. وفي خطوة تنم عن غطرسة مستفزة، بعد تلك الحملة المشينة ضد حركات الكفاح المسلح، أبرمت الأحزاب السياسية والجماعات المدنية المتحالفة معها إتفاقًا مع المجلس العسكري الذي تشكل لإدارة البلاد بعد الإطاحة بالنظام السابق، وإقتسمت معه السلطة “بمحاصصة” أقبح من تلك التي إقترحتها قوى الكفاح المسلح!!. فما كان من حركات الكفاح المسلح إلا إنتظار التفاوض مع “حكومة الثورة”؛ كما سميت. وضاعت بذلك فرصة الوفاق الوطني، التي كانت قد تضع حدا للتوهان الوطني.

 في تعاطيها مع الشأن الوطني تنطلق حركات الكفاح المسلح، من الواقع السوداني، برغم إنتقاد الكثيرين لها، بحكم إنها تمردت على سلطة الدولة المركزية وحملت السلاح في سعيها لبلوغ مقاصدها السياسية، وتصويرها  بأنها حركات مناطقية أو عرقية، لكن الحقيقة الماثلة للجميع أن كل مشاريعها السياسية ورؤيتها لحل المسألة الوطنية، منطلقة كلها من المنظور الوطني السوداني الخالص، ونضالها قائم على الخبرة الوطنية السودانية، ومطالب الشعوب السودانية في الحرية والكرامة والعيش بسلام. عكس المشاريع السياسية لمعظم الأحزاب السياسية السودانية، حيث قامت وتأسست في بيئة مختلفة عن الواقع السوداني، سواء كانت المشاريع السياسية لليمين  أو اليسار، كثيرًا منها مستمد من واقع آخر غير السودان، وساهمت بطريقة أو بأخرى في تعقيد المسألة الوطنية المتعلقة بالحكم وإدارة بلد متنوع مثل السودان.

كان من الممكن تفادي كل الحروب الأهلية التي حدثت في البلاد، بقليل من الجهد وكثير من الجدية؛ في سجل التاريخ الوطني عشرات إتفاقيات السلام. وكلها فشلت في وضع حد للشقاق الداخلي، وتظل شاهدة على فشل النخبة الوطنية في بلورة رؤية وطنية شاملة لادرة التنوع في البلاد، منذ عام 1955م، وهو العام الذي سبق إستقلال البلاد من بريطانيا، تاريخ بداية الخلاف الوطني. ذلك الفشل ولد شعوراً بفقدان الأمل واليأس بقدرة صوفتنا الوطنية على الإتفاق حول رؤية وطنية شاملة لإدارة البلاد وتأسيس لوطن يسع الجميع. البرفسور عبدالله علي إبراهيم أستاذ التاريخ الأفريقي، يرى أن الأمل لا زال معقوداً في التوصل إلى وفاق وطني تظلله الألفة السودانية، في مقال له عن المسألة الوطنية وحالة الشقاق هذه.حيث كتب: أن الأصل في الإدارة الوطنية هو حق الخطاء، وأن ظاهرة هذه الإتفاقيات الكثيرة هو دليل اعترافنا بوجود تلك الأخطاء وضرورة معالجتها. بل ذهب إلى وجوب تهنئة أنفسنا كسودانين على أمرين؛ أولهما الشجاعة التي جاء بها مختلف الجماعات الوطنية بأشواقهم إلى مائدة التفاوض بصبر وعزيمة حتى صرنا كلنا على علم بظلاماتنا. والثانية هي أننا لم نمل من التفاوض وصارت فينا عادة، وما نحتاجه هو شرف الالتزام بالميثاق الوطني. والأخيرة هذه فشلنا فيها فشلاً وأضحًا. وللسياسي الجنوبي المرموق، مولانا ابيل آلير  كتاب يؤرخ عن حالة النكوص عن المواثيق والإتفاقيات في التاريخالسياسي السوداني. أرجو أن نأخذ تلك الخبرة الوطنية الطويلة في المفاوضات القادمة، وأن نحسن التعامل معها، في تنفيذ الإلتزامات الوطنية، للوصول إلى وفاق وطني شامل.

 لم يشهد السودان كبلد في تاريخه صراعًا يحدد بقاءه كدولة مثل ما يحدث الآن، خاضت البلاد حروب أهلية طويلة، إنتهت بإنفصال جنوب السودان وتكوينه دولته المستقلة، والآن  الصراع يدور حول ماتبقي من الدولة الوطنية في عظمها الأساس (دولة – 56) التي أرادت هذه الحرب تدميرها وبناء دولة آخرى في مكانها؛ بالطبع لم تأتي هذه الحرب من فراغ. إنما هي  نتيجة للشقاق الوطني المذكور، وكان يمكن أن يتم معالجتها هي الآخرى بالخبرة الوطنية السودانية، لولا يأس بعض  النخب السياسية من الحلول الصحيحة طويلة المدى، وتفضيلهم الحلول الساهلة والسريعة، عبر مشروع خارجي إستغل أخطاء الدولة الإستراتيجية في إدارة ملف الحروب الداخلية القائم على سياسة توظيف قوات شبه عسكرية “paramilitary”. لخدمة أهداف خارجية وداخلية. وجد المشروع الخارجي نقطة الضعف تلك مدخلاً جيدًا لتفكيك الدولة؛ بضرب أقوي مؤسساتها، إتفقنا حول ذلك أو إختلفنا، وبتغطية جيدة من الـ(NGOS)، القوى الناعمة للاستعمار الجديد.

ما كان لقوى سياسية وطنية بذلت تضحيات جسام من أجل بناء وطن ديمقراطي عادل؛ أن تقف على الحياد في حرب تستهدف تمزيق الدولة، بتشريد والمواطن السوداني في المقام الأول. مهما كانت الخصومة أو عيوب الدولة السودانية ومؤسساتها؛ فإن البديل ليس مشروع قائم على تفكيك الدولة وتهجير المواطنين، ان التخلص من الأنظمة المستبدة والخصوم السياسين، عبر مشروع خارجي، لن يحل المسألة الوطنية ولا يعتبر نصراً على الإطلاق. السبيل الوحيد لبناء بلد متنوع يسع الجميع هو مواصلة الكفاح بقوى ورؤى سودانية دون الركون إلى الحلول الساهلة والخاطئة، سقوط الدولة وجيشها مهما كانت عيوبهما، يعني حرفيًا تسليم البلد للعصابات المسلحة، إن الخصم الداخلي مهما كانت عداوتنا معه لا يمكن القضاء عليه بمشروع خارجي، الذي يحدث هو تمكين الخارج من التوسع والتحكم بقرار الداخل، الحرب لن تقضي على الإسلاميين، وهو الهدف المعلن  للمليشيا وحلفائها، قبل أن يتطور لاحقًا إلى القضاء على (دولة – 56) وكذلك أن الحرب لن تقضي على مشروعهم السياسي الإستبدادي القائم في الأصل على إستخدام مؤسسات الدولة والانقلابات العسكرية. الذي يقضي على ذلك ويؤسس دولة المواطنة، هو الإستثمار الإجتماعي والسياسي بعيد المدى، القائم على الرضا الشعبي.

بعد سبعة عقود من الحكم الوطني، أصبح وأضحًا أن الاستعانة بالدول الخارجية لحسم صراع داخلي غير مفيد على الإطلاق، التاريخ الوطني شاهد على ذلك. الإسلاميون الذين يتشدقون اليوم بالوطنية هم أيضاً إستعانوا بالخارج في محاربة خصم داخلي، عندما حولوا حرب سياسية داخلية إلى حرب دينية وثقافية ضد أبناء الوطن؛ بفرض مشروع “أسلمة الدولة”، وتحويل البلاد إلى مركز لكبار قادة الإسلام السياسي في العالم، وتجييش الشعب، وزرع الكراهية والعنصرية والتفرقة على أساس الدين والثقافة، وتجهيز الشباب للقتال ضد أبناء الوطن “الكفار”، عبر أموال ضخمة من “البترودولار الخليجي”، ودول أخرى داعمة لمشوع الأسلمة أوالمشروع الحضاري، وإنشاء شبكة وأسعة من منظمات المجتمع المدني الدينية والجمعيات الدينية، الممولة بملايين الريالات للعمل وسط المجتمعات، لتمرير السياسات الثقافية العربية الإسلامية؛ بإستخدم الوطنية من منظورها الديني لتبرير التدخل الخارجي والتسامح مع الفكرة، بتصوير ذلك  كواجب الأخوة في الدين مساعدة إخوانهم، النتيجة كانت في النهاية إنفصال جنوب السودان.

نفس الخطأ المدمر الذي إرتكبه النظام السابق،  وقاد إلى تقسيم البلاد قبل عقد ونيف من الزمن، تكرره الآن القوى المدنية التي تدعي إنها تعمل على إيقاف الحرب، وإنها تقف على مسافة وأحدة من الأطراف المتحاربة، وتغض الطرف عن إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وقتل وتشريد المواطنيين وسرقة مدخراتهم، وتدمير البنية التحتية للدولة، وتدفقات الأسلحة والاموال من دول معلومة، بصورة علنية حيث لم يعد الأمر مخفيًا علي أحد. بحجة أن هذه حرب الإسلاميين، أو الإتكال على وهم ان الحرب سوف تقضي على خصمهم الداخلي. نجد انه مثلما إستند الإسلاميين على شبكة وأسعة من الجمعيات الدينية الممولة من حلفاء نظامهم من الخارج. تستند القوى المدنية هى الآخرى على شبكة وأسعة من منظمات المجتمع المدني الممولة بملايين الدولارات من دولة الغرب للعمل كزراع مدني لمشروع الإستعمار الجديد، تحت لافتة التحول الديمقراطي. وبذلك يكون قد سجلنا في صفحات التاريخ، بأننا البلد الوحيد في العالم الذي نخبته السياسية من اليمين شنت حرب دينية قسمت بها البلاد، والأخرى تواطئت مع مشروع خارجي ليقضي على ما تبقى من البلاد.

أن الديمقراطية لن تفرض بالحروب ولا بمشاريع خارجية. تؤسس الديمقراطية على إستقرار طويل المدى، وتطور دستوري عبر الممارسة، وتأسيس السلطة على القبول والرضا الشعبي؛ وإستقرار الدولة يتطلب نظرة إستراتيجية بعيدة المدى، الديمقراطية تحتاج إلى الصبر والحكمة لترسيخها، وشروط نجاحها يمر عبر طريق طويل وشاق لتأسيس التدوال السلمي للسلطة، والحكم الراشد ليس بقالب جاهز يمكن شراءهُ من السوق، بل سجل متراكم من الخبرة الوطنية، وتقديم التضحيات، والقدرة على التبصر والرؤية الاستراتيجية الواضحة تجاه مطالب الشعب الحقيقية، وتقديم إستحقاقات القيادة وتضحياتها، عبر التعامل مع والواقع واشكالياته بطريقة معرفية واقعية  وليست مثالية عاطفية، وعبر مجهود فكري وقيادي مدرك، وعدم الإحتماء والتخفي وراء الإجماع الرخو الذي يتولد عن مفاهيم غير وأضحة ومضللة.

 كل المحاولات تقريبا التي سعت إلى تطبيق نماذج من بلدان أخرى فشلت، لأن واقع تلك البلدان مختلف تمامًا، من جميع النواحي؛ فالديمقراطية المطبقة في أمريكا على سبيل المثال لا يمكن تطبيقها حرفيًا في السودان أو في أي بلد آخر، لقد طور الامريكيون نظام حكمهم بناء على خبرتهم الوطنية، وكذلك البريطانيون، النخبة الوطنية مطالبة الآن أكثر من أيّ وقت مضى بتطوير خبرتنا الوطنية والتعامل مع واقعنا دون حماسة زائدة أو تهور ودون الالتفات إلى مساعي دول الغرب التي تريد من الدول الآخرى خاصة النامية منها أن تطبق ديمقراطيتها، واقعنا واشكاليتنا مختلفة كليا، ولنيريري كلمة مناسبة حول هذه المسألة، في تعليقة عن النموذج الأمريكيي للديمقراطية قائلاً “The United States also is a one – party state but with typical American extravagance they have two of them .” .للصين أيضًا ديمقراطيتها، في قول ” شالز لي يو” مستشار الحكومة الصينية.ولا أحد يستطيع إنكار ذلك؛ بالتالي أن نظام الحكم القائم على الرضى الشعبي والخبرة الوطنية، دون التقيد بخبرة الآخرين هو السبيل الوحيد للإستقرار والنماء والتطور.

بالرغم من أن الحرب لم تنتهي بعد، لكن يمكن القول أن المعركة حسمت لصالح بقاء الدولة السودانية، وإنتصرت الإرادة الوطنية على مخطط تفتيت الدولة. ومع ذلك أن أضراراً كبيرة تعرض لها جسد الدولة؛ بالتالي لا بد من التوافق على رؤية وطنية شاملة والوصول إلى دستور دائم يجاوب على جميع المسائل الوطنية الخلافية، بضمان حقوق الجميع، وتكوين فعل سياسي وطني، يستند على الخبرة الوطنية السودانية بوعي ودراية لإدارة التنوع السوداني، وبناء الامة السودانية. والتخلص نهائيًا من  تعدد الجيوش، التي كانت مدخلاً للاطماع الدولية والإقليمية للسيطرة على مقدرات الوطن؛ فان أسس الحل السليم تكمن في  بناء جيش قومي مهني وأحد؛ بدمج كل حملة السلاح داخل المنظومة الأمنية للدولة، وتسريح من إختار الحياة المدنية دون مجاملة في ذلك، عبر ترتيبات أمنية صارمة، وتغيير الاستراتيجيات الدفاعية فيما يتعلق بمسالة الأمن القومي، التي كانت تعتمد على تشكيلات القوات شبه العسكريةparamilitary” “.لمكافحة التمرد الداخلي؛ بأن توكل كل المهام الأمنية إلي مؤسسات عسكرية منضبطة “جيش، شرطة، جهاز أمن .حتى لا نكرر الأخطاء القديمة التي ندفع ثمنها الآن.

عن الكاتب:

عبدالله بشير حقوقي واستاذ سابق بمعهد التدريب السياسي والقيادي للحركة الشعبية لتحرير السودان شمال. يكتب في الفكر السياسي والدراسات القانونية وله عدة أوراق منشورة في الصحف والمجلات المختلفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى