إعادة تشكيل العقل وتغيير السلوك دور الفن في الحد من الفقر
جان بيير داوجو جينجان- بوركينا فاسو
ترجمة :عماد البليك-كاتب سوداني
“ما القوة التي لا يزال الفن يمتلكها؟”هذا السؤال أثار استغرابي في البدء، لأنه في إدراكي الثقافي من الجلي أن للفن أثرا عظيما. عندما أذكر بذلك فهناك من يشكك فيه، وهذا ما دفعني للبحث والاستماع للعديد من الأفكار في هذا الإطار. بالنسبة للمجال الأفريقي، فإن قوة الفن محدودة لأنه لا يوجد من مساحة ليتمدد فيها وينمو. أتحدث من زاوية الدراما، لكن ليس لدي شك في أن أي شكل من أشكال الفنون من الممكن أن يكون له تأثيرٌ على الناس في الوقت الراهن. وهنا أتحدث عن العلاقة بين الفن وبدرجة أكثر تحديدا الدراما والفقر -للأسف-، فهو الشيء الذي يمكن تعريف المجتمعات الأفريقية به. على أي حال، فإنني أود أن أشير إلى أنه إذا كان للفن تأثير على الفقر، فإن ذلك لا يعود إلى أن الفنون تحقق الثراء.
يعمل الفن على إعادة تشكيل العقول، وأؤمن بأن الفقر في أفريقيا يرتبط أكثر بالقدرات الذهنية للرجال والنساء أكثر من ارتباطه بنقص الثروة. ولعل الناس المعتادين على البلدان الأفريقية يعلمون أنه حيثما توجد ثروة طبيعية كبيرة يوجد فقر مدقع. لهذا فإننا يجب أن نسأل أنفسنا، ما هي أسباب المشكلة. من وجهة نظري، إن الفن يمكن أن يغير عقليات الناس ويشجعهم على استعادة نوعية حياة معينة.
إن النقاش حول دور الفن في المجتمع، أمر معتاد عليه من قبل البشرية، تماما كممارسة الفن نفسه. وهذا النقاش ضروري لنا، كمجموعات وأفراد. وبغض النظر عن الشكل الذي يكون عليه شكل التعبير، فإن الفن لم يكن فارغا من المعنى في أفريقيا. فقد تم استخدامه دائما كوسيلة لتحقيق غاية، وهذا شيء خاص بالسياق الأفريقي. لنأخذ العمل البدني على سبيل المثال، فهو دائما ما يكون متبوعا بالغناء، ما يجعل واجهة المنزل تبدو أكثر جاذبية في التزيين، ويبني سلما أقوى، كما لو أننا نمارس نوعا من اللعب. فالفن لم يكن أبدا مجردا من المعنى، وثانيا فإن الفنان هو عضو في المجتمع ويخدم الآخرين. فالغريوت التقليدي (الراوي والفنان الشعبي الشفاهي) هو مزارع مثل أي شخص آخر، لكن أغانيه يكون لها دور في تحقيق حصاد أفضل. إنه لا يحمل امتيازا على الآخرين، لكنه حامل موهبة غير عادية، لأن الفن دائما ظل يحمل شكلا من أشكال الغموض للناس. ولا يوجد غريوتز محترفون في مجموعتي الإثنية، لكن أعرف أنه عندما يكون لشخص ما موهبة في الغناء، فإن المجتمع يعمل على حماية صوته/ها، لأن الناس يعتقدون أن الأغاني الجميلة تجذب الأرواح الطيبة كما الشريرة. والفنان يهتم بمشاكل الناس الذين حوله، ولديه القدرة على فهمهم والتعبير عنهم بواسطة الفن.
مع ذلك فإن الفنون التطبيقية أو العملية تميل إلى منع الناس من التعلق بالفنون الأكثر حداثة وتقديرها. فالذين يسكنون في الأرياف لا يميلون إلى شراء اللوحات لتعليقها على جدران منازلهم كما يفعل سكان المدن، ويرجع هذا للاختلاف في طريقة توظيف الحوائط، فتعليق الصور والإعجاب بها ليس مما نقوم به، إذ نميل إلى الرسم مباشرة على الجدار. فالجدار في البداية وقبل كل شيء هو سطح وظيفي، لكنه أيضا قد يكون ممتعا من الناحية الجمالية. عادة ما يقول الفنانون الأفارقة لي: “نحن نرسم لذوي البشرة البيضاء، وهم يحبون ما نقوم به”. نحن نعتمد على شكل من أشكال التعلق بالفن الوظيفي، وهذا التصور للفن يسهل مهمة الدراما، لأن المجتمعات الأفريقية تراها أداة للتواصل الاجتماعي.
عندما كنت أقدم أدوارا تمثيلية في واغادوغو (عاصمة بوركينا فاسو) لم يكن الناس يأتون ليروا مدى جودة أدائي الدرامي، بل ما أقوله لهم، فما يقال كان هو أهم شيء، أما كيف يقال فقد كان أمرا ثانويا. هناك نوعان من الدراما في أفريقيا: الدراما الكلاسيكية والدراما التداخلية الاجتماعية، الأولى تؤدي بلغة أجنبية كالإنجليزية والفرنسية والبرتغالية، وتكون عادة في الأماكن الحضرية، حيث يوجد العديد من الناس يعرفون هذه اللغات. ويكون الجمهور عادة مجموعة صغيرة، حيث إن نسبة الأمية في بعض البلدان الأفريقية تصل إلى سبعين بالمئة من مجموع السكان. ويتبع هذا النوع من المسرحيات الاتجاهات الفنية الشائعة “الترندز”، غالبا الأشكال الغربية والتقليدية. أما الموضوعات فتشغل اهتمام مجموعات صغيرة من السكان، وترتبط عادة بالأفراد والقضايا النفسية. ومع ذلك فهذا الشكل الدرامي يعتبر مهما وهو الذي يستحق الوصول للمسارح والاستمرار. أنا شخصيا أقوم بجولات في دول أوروبية، في بعض الأحيان يكون معي ممثلون تقليديون، فهي طريقة جيدة للتواصل مع باقي العالم، تعطيك القدرة على الكلام والتواصل بلغات أخرى هي أساس التبادل الثقافي. لهذا من المهم أن تستمر البلدان الأفريقية في تقديم هذا النوع من الدراما.
مهما يكن فإننا نركز هنا على الطرق التي يمكن بها الحد من الفقر، لكن الدراما الكلاسيكية لن تساعدنا في الوصول إلى الناس الذين يعيشون في القرى. بالتالي يتعين على شركات المسرح الكبرى أن تمارس أشكالا مختلفة من الدراما، التي تتضمن الشكل التفاعلي الاجتماعي، الذي قد يتخذ طرقا مختلفة. وهنا واحد من الأشياء التي أقوم بها، إنني أنظم حوارات درامية، في حين يقوم أحد الزملاء بتنظيم منتديات في الدراما يكون لها ذات الهدف. في مالي نسمي هذه الأشكال من التمثيل “الدراما النفعية” لما تحمله من فائدة في زيادة وعي الناس بالعديد من القضايا. هذا النوع من الدراما يوجد في النيجر، وينتشر في جميع أنحاء أفريقيا. وهو يخلق جسرا بين الفن والقضايا التنموية، ويقدم باللغة الوطنية، مغطيا موضوعات مرتبطة بالسكان المحليين.
دعونا نركز على نموذج الختان، أو ختان الإناث. فقد كان شاغلنا الرئيس لعدة سنوات في بوركينا فاسو، حيث نجحنا في الأماكن التي فشلت فيها اللجنة الوطنية المخولة بهذا الموضوع في القيام بدورها، ذلك لأنها كانت تركز على مسألة حظر الختان في القرى وهذا لا يكفي. عليك أن تضع نفسك مكان هؤلاء الإناث اللاتي هن محل الخطاب. إذ يكون المفتاح كيف يمكن إبراز هذا الموضوع، ولسوء الحظ فإن المنظمات والجمعيات لا تملك من القوة لإقناع الناس. وفي ثلاث مناسبات قمنا بزيارة قرى كان رئيس اللجنة المعنية بالختان قد زارها من قبل، وكنا نعمل على البناء خطوة فخطوة. في المرة الأولى قلنا لهم “نعلم أنكم تفرضون الختان على نسائكم، وهذا جيد، فلديكم الحق في ذلك”. هذه المرة الأولى هي لحظة حاسمة، إذ يجب أن نبدو متوافقين معهم، لكي يتم تقبلنا. وفي الخطوة الثانية سيكون علينا إدخال حجج مثل “نعم، لكن هناك مشكلات، فهناك بعض الناس الذين يقولون إن هذا ليس جيدا”، ونقوم بالتوضيح للقرويين أن زمن أسلافهم قد مضى، وأن هناك عللا جديدة في المجتمع. في المرة الثالثة، نقوم بتحقيق ما نصبو إليه، لأننا قمنا بإقناعهم من خلال الحوار والشرح، وأيضا لأننا جعلنا الناس يغيرون من طريقة تفكيرهم واستيعابهم للضرر الذي يحصل جراء هذه الممارسات.
هذه القضية أيضا تنطوي على مشاكل اقتصادية، ففي مدينة تبعد 300 كيلومتر شمال واغادوغو، قامت بدعوتي سيدة ممارسة لعملية الختان، بعد أن شاهدت إحدى مسرحياتنا، وقالت لي: “يا بني، لقد شاهدت المسرحية وأعجبتني لأنني أتفق معك”. مع ذلك فقد أضافت: “انظر إلى أحفادي، فهم بصحة جيدة، ولديهم ما يكفي من الطعام، ذلك لأن ذلك العمل يجلب لي المال، العملية تكلف فرنك، أو ثمن عنزة، وهذا هو سبب أن أحفادي يتمتعون بصحة جيدة، فإذا توقفت ما الذي يمكن أن تقدمه لدعمي؟”. أنا لا أقول للناس فقط ما يرغبون في سماعه، لهذا أجبتها بأنني لا أستطيع أن أفعل لها أي شيء، لكن قلت إنني سأتحدث إلى رئيس البلدية أو المحافظ حتى نتمكن من إيجاد مشروع آخر لها.
عندما نقول إن التقاليد والعادات تفسّر السلوك، فغالبا ما يتعين علينا البحث في أسباب أخرى وبالتحديد الأسباب الاقتصادية. أيضا يجب علينا بناء درجة معينة من الثقة والحميمية مع هؤلاء الأشخاص لفهم مشاكلهم بشكل كامل والتأثير على سلوكهم، وهذا ما تفعله التشريعات. فأنا لا أؤمن بسجن النساء اللائي يمارسن ختان الإناث، لأن ما لا ندركه هو أن النساء يؤمن بأنه من خلال ختان بناتهن يقمن بعمل عظيم يجسد حبهن لهن، لهذا فالسجن لن يحل الموضوع وسوف يحصلون على طرق أخرى للقيام بما يرغبون. الدراما هنا ستكون أكثر فعالية، لأنها تقوم بتفسير حاجة الناس لوقف هذه الممارسات.
نحن أيضا نغطي موضوعات أخرى كالإيدز، والتثقيف الغذائي للنساء. لا يوجد موضوع من المحرمات. ونقوم بعرض المسرحيات في الضواحي الفقيرة للمدن والقرى، حيث تقدم العروض بخمس لغات رئيسة مستخدمة في البلد.
إن تقديم العروض يكون مثل لعبة تفاعلية تساعد في اتخاذ القرار، فالشعور بالمشاركة في القرار النهائي يخلق تحولا في العقليات، ولأن كل شخص له القدرة على المشاركة بأفكاره، فإن الناس يصلون لقناعة أكبر وبسهولة، وباستخدام هذه الأساليب فإن الدراما التفاعلية تجد ممارسة واسعة في دول غرب أفريقيا، وتعتبر أداة لرفع الوعي وتعليم الناس. ونحن لا نستخدم التعليم من منطلق أننا ناضجون معرفيا وهم جهلاء، ولكن من خلال الشعور بأن الإنسان عندما يستنير فإنه يعمل تلقائيا على دحرجة الجهل للخلف. كل الأخطاء التي نقوم بمحاربتها ترتبط مباشرة بالجهل الذي يقود إلى الفقر. فالإيدز مثلا يقتل الناس عموما في سن يكونون فيها قادرين على الإنتاج الاقتصادي، وإذا ما فقدت أسرة اثنين من أفرادها بسبب هذا المرض خلال سنة، فهذا يؤدي حتما إلى فقر هذه الأسرة.
إن الاستراتيجية التي نستخدمها للتدخل بسيطة، نصل إلى القرية، نقوم بتجهيز وجبة طعام ونعزف الموسيقى بصوت عالٍ لجذب الناس. وعندما يكون هناك حوالي 500 شخص حولنا، نقوم ببداية العرض، أو “القصة” ومن ثم نجري النقاش المفتوح. ويستغرق العرض ساعة على الأكثر، لكن النقاش قد يستمر لساعتين، ومن الضروري الإجابة على جميع أسئلة الجمهور والتوصل إلى توافق في الآراء بنهاية العرض. وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تصبح فيها هذه الأفكار الجديدة والسلوكيات الجديدة موضوعات للنقاش في أماكن العمل أو بين أفراد الأسرة. يتعلق الأمر ببث حرية الرأي من خلال تحرير العقل.
ومن العروض التي قدمناها عرض بإحدى المدارس الثانوية، أطلقنا عليه “فيروس في المدرسة”، والثاني أسميناه “التعصب المدمر”. في كل الأحوال فإن المناقشات الدرامية تتضمن كل أنواع الفن، ونحن حقيقة نقدر حقا فنون المخاطبة والرقص والموسيقى وكل الأشكال الأخرى التي تثري العروض، وهذا هو السبب الذي يجعلنا مختلفين عن العاملين الصحيين ويحقق نتائج أكثر من سياسات الصحة العامة.
إنني كفنان أطرح السؤال: ما هو مدى فهمي للفقر في أفريقيا؟ وهنا غالبا ما أندهش بكيفية تطور المفردات، فقبل بضعة عقود كان يطلق على الدول الأفريقية “متخلفة” ومن ثم صارت تسمى “نامية” ومن ثم “فقيرة”، أما اليوم فهي ليست فقيرة، إنما واقعة تحت ثقل الديون “مدينة”. ومع أن الواقع هو نفسه لم يتغير، إلا أن التلاعب يتم بالكلمات. فالمساعدات لم تغير كثيرا في المشهد وكذلك التكنولوجيا الحديثة. وقد ظللت لفترة طويلة أدافع عن الأطروحة القائلة بأننا قمنا بتشخيص خاطئ للمشكلة. أؤمن بأن المشكلة الحقيقية هي ضياع الثقافة، وهذا ما أضعف ذهنية الناس وجعلهم يفتقدون للتكيف مع البيئة، فقد فقدوا القيم الداخلية التي تعمل على تعضيد النسيج الاجتماعي وتقوية الروابط بينهم. وهم لا يمكنهم الاعتماد على القيم الوافدة لمساعدتهم على التطور. إن الاعتراف بالقيم الداخلية يعني الثقة بالأفراد والمجتمعات، وإعطائهم الاستعداد للمواجهة، لأن الناس في الوقت الحاضر هم مستسلمون وينتظرون الفرج. إن جيل الشباب الذين يغامرون بالهجرة عبر القوارب، يدركون أنهم قد يموتون، لكنهم يعتقدون أيضا بأن “الأمر لا يهم”، لهذا فنحن في حاجة إلى استعادة طريقة في التفكير يرغب الأفارقة من خلالها في القتال وعدم الاستسلام. هذا التغيير يأتي من خلال المعلومات والتعليم، وهو يشكّل مهمة شركات الدراما التفاعلية، في معظم البلدان.
إن الدراما الأفريقية كغيرها من أنواع الفنون، لا تزال قادرة على خدمة العقل البشري، وتشجيع الناس على تغيير سلوكياتهم، والمساعدة في التعامل مع الفقر المعنوي والمادي من جذوره، وفي رأيي هذان هما الجانبان الرئيسان للفقر، ومن خلال زيادة الوعي بواسطة الفن يمكن تدريب الناس على خوض المعركة ضد الفقر.
الهوامش
* نشرت الورقة بمجلة ناشيونال ميوزيم، اليونسكو، العدد 247 المجلد 62 سبتمبر 2010 وهي جزء من أوراق ندوة «ما الذي يمكن للفن أن يفعله؟» نظمها القطاع الثقافي باليونسكو عام 2009 بالتعاون مع المجلس الدولي للفلسفة والإنسان.
فضلا عن كونه أستاذ الدراما والسياسة الثقافية في جامعة واغادوغو في بوركينا فاسو، فالكاتب ممثل ومخرج وكاتب مسرحي ومروّج للمناظرات الدرامية. أسس «مسرح الأخوة» في بوركينا فاسو ويديره، كما أسس المهرجان الدولي للمسرح والدمى المتحركة في واغادوغو